رؤية المبدع الفلسطيني للسلام
بقلم:السيد نجم
إذا كانت "المقاومة" شكل من أشكال العنف. تبدأ ب "إرادة" ثم "قرار" ثم "فعل".. فان هذا الفعل على اتجاهين.. إلى الآخر أو المعتدى المباشر, وربما إلى الأنا أو ألذات. لتصبح المقاومة بالتالي على شكلين:"المقاومة الايجابية".."المقاومة السلبية."
أولا: المقاومة الايجابية..
وهى الصورة الأقرب إلى الأذهان لفعل المقاومة, حيث تعد الجانب الايجابي والمرغوب من "العدوان". وان كان "العدوان" مذموما بالعموم, إلا أنه لا يعد كذلك عندما يصبح دفاعا عن ألذات الجمعية أو تكيفا مع القدرة على الصمود أو عملا فاعلا لمواجهة خطر ما من آخر عدواني. هذا الخطر يتسم بتهديد مصالح "الجماعة" الحيوية أو يسيء إلى القيم العليا المتفق عليها, وقد يهدد حرية الجماعة وربما بقائها في الوطن الآمن.
يوصف فعل العنف في المقاومة الايجابية, بذاك الفعل الذي يتجه إلى الآخر العدواني أساسا, والواعي بحدود جماعته وهويتها وقيمها, والنابع عن إرادة الدفاع عن الجماعة ومصالحها الحيوية. وهو لتحقيق ذلك يتخذ كل السبل حتى يتحقق الهدف الأسمى.
ثانيا: المقاومة السلبية..
هي (أيضا) فعل العنف النابع عن إرادة وقرار ثم فعل, هذا الفعل "القوى" يعبر عن نفسه بالعنف, إلا أن هذا العنف يتجه إلى "الأنا" أو "ألذات".. وقد يتجه الفعل إلى نقد الآخر وفحصه وتحليله من أجل كشف الجوانب السيئة في هذا الآخر العدواني, دون أن يتسم الفعل بالعنف المباشر, على هذا الآخر. بينما قد يصل إلى ذروة عنفه مع الأنا أو ألذات.
ويمكن إجمالا تحديد عناصر المقاومة السلبية بالتالي: "البدء بتحديد الهدف – تعضيد ألذات بالوعي والفهم للقضية/القضايا محور الصراع مع الآخر العدواني – كشف صورة الآخر العدوانية – القدرة على تحمل المعاناة المتوقعة من الآخر الأقوى – تفهم الواقع المعاش مع تحمل المشاكل الطارئه حتى يتحقق الهدف الأسمى – العمل على أسس خطة مدروسة للمواجهة بأقل خسائر ممكنة..وأخيرا تفهم جوهر التاريخ الانسانى, حيث انتصار الخير والسلم والحرية.
بالعموم للمقاومة أشكالها المباشرة وغير المباشرة.. ومنها البسيط كإزالة عائق ما أمام ألذات كي تتحرك للامام, من أجل حياة أفضل.. أكثر رقيا وكرامة ورفاهية, ومنها المعقد إلى حد الصراع العنيف والحروب.
ماذا عن السلم؟
"السلام" هو مطلب الإنسان في كل زمان ومكان, هو فطرة الإنسانية, في مقابل "العنف" الذي يرفضه كل عقل راجح.
كم عانت الإنسانية من العنف, حتى أن بعض الدارسين أكدوا أن الإنسان عاش في صراع إلى حد الحروب, بما يمثل 80% من جملة أيامه وسنين تاريخ البشرية على الأرض.
تمثل العنف في تلك الحروب التي لم تفرق بين المقاتل والضعيف من أطفال ونسوة وشيوخ, حتى رصدوا بالإحصاء أن الضعفاء هم الأكثر تضررا من المقاتلين أنفسهم. ربما آخر إحصاء حول حروب القرن العشرين الميلادي ترصد 175مليون نسمة قتلوا بسبب العنف الغاشم الذي استتبع المعارك..لم يفرق بين سكان المدن والمسلحين في ميدان المعركة, ولا بين مقاتل وغيره من الضعفاء.وقد سعت الإنسانية إلى محاولة مواجهة العنف بكل صورة, بوازع ديني, وعاطفي إنساني, وأيضا كل الأيديولوجيات الأكثر تقدما, وبعيدا عن تلك العنصرية التي تذكر في كتب التاريخ من مدخل التذكر والاعتبار.
ربما يجدر الإشارة إلى بعض التعريفات:
"العنف": ضد الرفق (وقد أبرز د.سيد عويس في دراسة منشورة له حول العنف أن المقصود بالعنف في الخطاب العام الإعلامي..أنه ذلك العنف الإنساني, أي الذي يصدر عن البشر..حيث يوجد العنف في الحيوان أيضا).
وقد يحدث العنف بين الأفراد كنمط سلوكي, أو بين الهيئات والمنظمات والجماعات مثل التنظيمات السياسية أو المهنية وغيرها. ومن مظاهر العنف "الثأر" أو المشاجرات العنيفة..وكلها ترتكن على ثقافات اجتماعية تزكى العنف.
"السلام": هو ضد مفهوم العنف. والطريف أن البعد الأنثروبولوجي لبعض الشعوب "أي بعد الجنس الإنساني لشعوب ما"..قد يكون أميل إلى السلام, بينما شعوب أخرى أميل إلى العنف إلى حد الحرب. وقد أوضحت الأساطير والحكايات الشعبية للصين أنها من النوع الأول, بينما الهند من النوع الثاني!
وربما من المجدي الإشارة إلى مصطلح "الصراع"..حيث أن العنف يتبدى بالصراع جليا, والسلام يجعل من الصراع تنافسا شريفا كما في الصراع الرياضي. فالصراع يعد عند رجال الاجتماع, نوعا من العمليات الاجتماعية وفيه يحاول أطراف الصراع أفرادا أو جماعات أو حتى الدول تحقيق كل الرغبات التي يحتاجها, ومنع الآخر من تحقيقها. وهو على درجات منها اليومي والهين والشديد إلى حد العداوة.
كما أن مصطلح "الضمير" يتداخل لتفضيل العنف أو السلام أو حتى الصراع أو العداوة. وهو البوصلة التي ترشد الأفراد والجماعات إلى الخبيث والى الطيب من الأعمال والأقوال والأفكار.. به يستقبح المرء أمرا أو يقبله ويندفع نحوه. والضمير يتشكل يوما بعد يوم منذ اليوم الأول لمولد الإنسان, بفضل الثقافات والخبرات المتوارثة والمكتسبة.
وبالتالي فما أحوجنا الآن للإشارة إلى مصطلح "التربية" التي اختلفوا حوله, فليس هو التلقين اليومي من الكبار إلى الصغار, بقدر أن التربية هي الخبرات المكتسبة والقابلة للتعديل والتبديل إلى الأفضل بفضل سعة الأفق, وعملية التقييم المستمرة.. حتى تزدهر ملكات الإنسان ليحقق إنسانيته التي فطره الله عليها.
هناك العديد من الأمثلة والتي أوردها د.سيد عويس (في الدراسة المشار إليها سلفا), لبيان مظاهر العنف عند الأفراد, وبالتالي تعبر عن أسلوب من أساليب العداوة:
" الإثارة", "التسلط", "التعبيرات البدنية", "المعارضة المطلقة", "مركز الانتباه", "التمييز ضد", "المعاملة في غير احترام", "الأنانية", "إرباك الآخرين", "التعبير عن الإحساس بالسمو", "المزاح العنيف", "المعاملة النفعية", "الجزع الزائد عن الحد", "الاعتداء البدنى", "الوقاحة", "التحكم التام مع التسليم يذلك", "تحميل شخص ضعيف خطايا غيره", "عقاب ألذات", "المعاملة الصامتة", "إفساد ذات البين", "لهجة الحديث", "الإذعان دون اقتناع".
أما الأمثلة حول العنف عند الجماعات أو الدول, فقد أورد منها:
"التفرقة اللاإنسانية مثل التفرقة العنصرية بسبب لون البشرة", "السجون باعتبارها مؤسسة قمعية وليست تهذيبية", "الحروب على كافة أشكالها المحلية منها والعالمية", "المؤامرات والدسائس العنيفة"...
كما جاء "السلم" في معجم "مختار الصحاح" بالمعاني التالية:
السلم (بكسر السين وسكون اللام)= السلام (أدخلوا في السلم كافة) وذهب بمعناها إلى الإسلام.
السلم (بفتح السين وكسرها)= الصلح.
السلام (بفتح السين)= اسم من أسماء الله تعالى.
وقد عمق الإسلام مبدأ السلام والدعوة إليه, يقول الرسول (صلعم):
"السلام قبل الكلام".."إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا"
ومن دعوته لنا في ميدان الحرب والقتال, إذا أجرى المقاتل كلمة السلام, وجب الكف عن قتاله.. يقول تعالى:
"ولا تقولوا لمن ألقى أليكم السلام لست مؤمنا"
"والله يدعو إلى دار السلام"
"لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما, إلا قيلا سلاما"
ثم تعدى مفهوم الإسلام للسلام من التوجه العام إلى منهج في مناحي الحياة..فكانت الدعوة إلى الدين بالعقل والإقناع (بالسلام), ولا إكراه في الدين.
كما أن "السلام" هو جوهر علاقة المسلمين بعضهم ببعض: "إنما المؤمنون إخوة", "المسلم أخو المسلم"..
أما وقد أصبح السلام منهجا للفرد والجماعة, بات المنهج في علاقة الجماعات بعضها ببعض: "وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا, فأصلحوا بينهما, فان بغت أحدهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله"..
ثم كانت العلاقة بين المسلمين مع غيرهم:
"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم, إن الله يحب المقسطين".. سورة الممتحنة آية 8
ومن أجل أن يكون "السلام" بين الناس والجماعات, كفل الإسلام جميع حقوق الإنسان..
:حق الحياة.."من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض, فكأنما قتل الناس جميعا, ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"..سورة المائدة آية 32
:حق صيانة المال.. "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم"..سورة النساء آية29
:حق العرض.. "ويل لكل همزة لمرة.." سورة الهمزة آية1
:حق الحرية.. والمتمثلة في حق المأوى وحق التعلم وإبداء الرأي وغيره, يقول تعالى:
"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا, إن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف, أو ينفوا من الأرض ذاك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم, إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا أن الله غفور رحيم"..سورة المائدة33
وفى القرآن الكريم العديد من الآيات التي تحض على القيم العليا الإنسانية:
"ولا تستوي الحسنة ولا السيئة, ادفع بالتي هي أحسن, فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم" (فصلت-41)
"وان الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون" (النحل- 90)
إذا كانت القاعدة هي "السلام" فلا مبرر للحرب في نظر الإسلام إلا في حالة الدفاع عن النفس والعرض والمال والوطن, وكذا رد العدوان مع الدفاع عن الدعوة إلى الله.
مما سبق كانت العلاقة بين المقاومة والدعوة إلى السلام.. بمعناها الشامل (سلبية وايجابية) ركيزة للحياة الكريمة, كما أن السلام هو جوهر تلك الحياة ومحركها. وفى الدعوة إلى السلام دعوة لإزكاء المقاومة (السلبية) التي تعضد ألذات الفردية/الجمعية لترسيخ قيم الانتماء وحب الأرض والجماعة والوطن, وبالتالي رفض العدوان, والتأهب لمواجهته. إن كانت الدعوة للسلام فعل غير عنيف موجه إلى الآخر, فهو فعل في حاجة إلى مجاهدة لتبعات تلك الدعوة, فلا سلام مع ضعف, ولا تكون الدعوة إليه إلا بقوة ترتكن على قوة مادية ومعنوية في حاجة إلى مكابدة ومثابرة, ومن هنا كانت الدعوة إلى السلام..مقاومة أيضا.
وغالبا ما تكون الدعوة إلى السلم..رائجة وضرورية (ربما), في حالتين: أثناء فترات استشعار الخطر أو فترات التهديد مع عدم الرغبة في المواجهة العنيفة (صراع), أو حتى أثناء فترات الصراع والحروب..رغبة في إزكاء روح التسامح والقيم العليا (حيث القاعدة للحياة الإنسانية هي السلام).
قصة "سلام الجنرال".. "تيسير نظمى"
وهى قصة تتناول فهم "السلام" من المنظور العبري, إلا أن القصة تبرز أيضا: كيف يتناول فلسطيني الخارج قضايا سكان الداخل, وكيفية معالجتها فنيا؟؟
فقضية "السلام" عامة/خاصة بالنسبة للفلسطيني, وقد كتبها بلا مكان أو زمان (تاريخي), كما بدت تصلح لمعالجة مفهوم "السلام" على العموم..وهو ما أكسب القصة نكهة ومذاق خاص. تبدو بلا انفعال أو افتعال على الرغم من سخونة موضوعها.. تقدم نفسها من خلال تجربة مفترضة وبسيطة, إلا أنها معبرة وساخرة ودالة.
نص القصة:
"جزع الجنرال من تكرار مشاهدته لزرقة الحمامة أحيانا, أو زرقة العصفور على زجاج سيارته النظيف اللامع تماما مقابل سحنته تماما وبالضبط عند التماعة ضوء الشمس على شعار خوذته العسكرية, ترجل وتفحص للمرة الثالثة, والنتيجة زرق يدل على أن الطير هذه المرة يأكل البرغل والمفتول, في المرة السابقة كان زرق الطير يحتوى على شيء من الفريكة, في المرة قبل السابقة كان يحتوى على بضع حبات من العدس, والأمر بات واضحا أن الطير مرسل به من مناطق يسكنها الفلسطينيون.
إذا كان الأمر هكذا, فكر الجنرال, فمعنى ذلك أن الطير إن ترك مواد كيماوية أو تناولها أو حمل معه أسلحة جرثومية فان الجنرال لا يكون قد أنجز شيئا من وراء بناء الجدار ولا أنجز شيئا من وراء بناء الجدار ولا أنجز شيئا بتسلحه المعنوي والاستراتيجي والنووي إذا ما ضاع كل هذا بزرقة لعصفور مستهتر عابث. إما إذا جرى تفجيره عن بعد فسوف يأتي على أنف الدولة إلى مهزلة, كأن يظهر الجنرال في مؤتمر صحفي بأنف مقطوع. جزع الجنرال أكثر عندما تفحص زرق اليوم الرابع الذي سح سحيحا ناشفا بعد أن كان طريا, فشروط في ذات المكان المتعمد في الزجاج المواجه لوجه الجنرال, ودون أن يظهر لبقية الجنرالات الآخرين أسباب انزعاجه جرى تكليفه للشرطة وجهاز الاستخبارات بسرية تامة وعلى نطاق محدود بمراقبة توقيت مجيء الطير وتوقيت تعمده لتوجيه الإهانة تلو الأخرى لمهابة الجنرال, كما من المهم أيضا متابعته من أين يأتي والى أين يذهب, ومن يرافقه قبل الإطاحة به والقضاء عليه.
الجندي المكلف أمسك فورا بالناظور وراح يتفحص السماء فوق سيارة الجنرال التي قام بتنظيفها وتلميع زجاجها الأمامي تحديدا مقابل الشعار. كانت السماء رائقة صافية والطيور تناغى بعضها البعض فوق الشجرات, عصافير أخرى كانت تنط على السور وتتقافز في كل الاتجاهات وتحديدا في أعلى السور الواقي تكاثرت العصافير, مما جعل المهمة ليست بالسهلة لمراقبة ماذا يجرى خلف السور.
هل يقوم الأولاد هناك بعلف العصافير متعمدة لتكسر مهابة علو السور؟ هل هذا عمل تخريبي قيد الإعداد لاستبدال انتفاضة العصافير بانتفاضة الحجارة, ومن ثم انضمام بقية الطيور في زعزعة استقرار الدولة؟ هل أصبحت الدولة غير قادرة على حماية سمائها وأجوائها ثم ماذا سيقول العالم إن قامت طائرات الأباتشى بقصف عصفور بال على سيارة الجنرال أو نياشينه ورتبه على الكتفين؟
وإذا ظهر الجنرال بملابسه المدنية ألن تلاحظ زوجته تلك الإهانة التي قد يكون منشغلا عنها في أعماله واجتماعاته وعملياته وتخطيطاته لاجتثاث الإرهاب من جذوره؟
وقبل أن ينقضي اليوم الأول من مراقبة الجدار ومراقبة الأسوار ومراقبة الأشجار ومراقبة كل متحرك في السماء, مد الجنرال يده مصافحا الجندي المكلف الذي أدى التحية بدوره لسيده مبتسما لإنجازه المهمة بدقة متناهية وعدم تجرؤ أي عصفور على التبرز على زجاج سيارة الجنرال فوق المقود بنحو خمسين سم, وقبل أن يرد الجنرال على ابتسامة الجندي بمثلها وقبل أن تنسحب الأيدي المتشابكة بالسلام راح كل منهما يتحسس السائل الساخن فوق قصبة أنفه ماسحين برازا متشابها بأصابعهما والطيور تطير من فوقهما في كل الاتجاهات."
قراءة:
إذا كان الفاصل بين الملهاة والمأساة خط رفيع, كذلك الحال بين السخرية والتهكم, بين التراجيدي والكوميديا. عندما تعددت تعريفات "الكوميدي" دون تحديد واضح لها, قام الناقد الفرنسي "بيير فولتز" بتعريفها عن طريق السلب.. فهي في نظره, نوع وسيط شديد المرونة يمكن تعريفه بتعارضه مع الأنواع الأخرى مثل التراجيديا أو الدراما.
على هذا تكون الكوميديا "وعاء" يمكن أن يصب فيه جميع أشكال القص والمسرح غير النوعان الموضحان.
و"الفكاهة" أكبر وأوسع مجالا من أن تحصر في "الكوميديا" وفنونها المختلفة, سواء الفكاهة الشعبية التلقائية, أو حتى المقننة في الفنون مثل المسرح مثل "كوميديا الفودفيل" و"البولفار".. تلك التي تعتمد على المفاجأة والمفارقة والحيلة (التكرار- اللبس.. الخ).
وقد فسر "فرو يد" الدعابة إلى أنها ترجع إلى "اقتصاد المجهود الذي يفرضه علينا الكف أو الكبت"...
كما فسر الفيلسوف "برجسون" الضحك واعتبره ظاهرة اجتماعية, وأنه ينشأ لحظة انتصار الجسد على الروح (أو انتصار الثقل على الخفة). ويقوم الضحك على المبالغة والتعميم, وتبدو المبالغة في فن الكاريكاتير. كما يفرق بين السخرية والتهكم, فالأولى تقوم على نظرة مثالية..مثل تقديم السام على أنه الواقع, والتهكم على العكس, تقديم المتدني على أنه مثالي أو الأمثل.
يبدو أنه من الضروري الإشارة إلى تلك المقدمة السريعة حول الفكاهة والضحك قبل تناول القصة أعلاه. فالقصة تحمل في طياتها جوانب فكاهية ومثيرة..من الابتسام حتى القهقهة, بلا افتعال أو ادعاء صنع قصة كوميدية..وان بدت كذلك.
فالقصة "حدوتة" مسلسلة ومباشرة, بين جنرال عسكري همام ونشط مع عصفورة!. تماما كما حواديت "ألف ليلة وليلة", وان وظفت عناصر الواقع الفلسطيني المعاش والآني.. الجنرال, السور المشيد عنوة على الأرض, العصفورة, مع الجندي ونظارته المكبرة والسيارة العسكرية ثم السلاح القاتل.
وان كان جوهر الموضوع مثيرا للصوت الزاعق والمقولات الجاهزة, إلا أن القاص جعلها قصة فكهة وطريفة, فبدت طازجة الفكرة والتناول الفني. فلما نشطت أفكار الجنرال, تخوف من الإرهاب الذي قد يكون قد دبر حيلة مع, وتواطأ مع العصفورة, كأن يجعلها تحمل المواد الخطرة والبيولوجية الممرضة.. وغيرها. لذا قرر تكليف الجندي بمتابعة ما وراء السور, من يطعم العصافير؟ من أين تجيء؟ وغيرها من الأسئلة الواجبة والتي تعنى فهم الجنرال لمهام وظيفته تماما.
لكن.. تكاثرت العصافير فوق السور تتناغى, بحيث لم أصبحت مهمة الجندي صعبة!.. كما انقضى اليوم الأول, ولم تحضر ألعصفوره الشيطانية.. فشعر الجميع بالنشوة والانتصار.. وفى النهاية قرر الجنرال مصافحة الجندي على نجاح مهمته.. وهو هكذا يصافحه, عادت العصفورة وتبرزت فوق أصابعها المتشابكة!!! لتتجدد مفاجأة لم تكن في الحسبان, كانت هناك في السماء مجموعة من العصافير تطير فوق رأسيهما, ولم تكن عصفورة وحيدة!
كتبت القصة خلال عام 2004م, حيث وطأة المواجهة بين العسكرية العبرية, والشعب الأعزل الفلسطيني, بل بينهم وكل عناصر الوجود والطبيعة على الأرض الفلسطينية, هاهي ذي بينهم وبين عصفورة!!
إذا كان السور المشيد ارتفاعه سبعة أمتار وبطول قرابة الألف كيلومتر, يخترق القرية فيمزقها, ويتمدد فيقطع أوصال الضفة الغربية كلها.. هذا السور الخرساني وحده قد يوقع القاص في التسجيلية غير الفنية, ويجعل من العمل الابداعى مجموعة من الكلمات الحماسية الرافضة. إلا أن المعالجة جاءت بمواجهة الجنرال الكبير مع العصفورة الصغيرة, والتي يبدو أنها تتعمد التبرز على زجاج سيارته اللامع النظيف, وتماما أمام عينيه!!.. حتى انتهى الأمر بالتحدي وكان البراز فوق الكفين المتصافحين, بينما السماء لمجموعة عصافير.
تعد القصة من القص المقاوم المدافع عن الحياة, والداعي إلى السلام, ولكن بمفهوم أعم وأشمل من السلام المحفوف بالخطر, أو السلام المفروض بالقوة, انه السلام المعبأة بدلالات معنى "أدب المقاومة"
قصة: "بوابة السلام".. "بشرى أبو شرار"
"من حي الزيتون... عين الحلوة.. تل السلطان.. مخيم البرازيل.. يتحرك جسمه الصغير بين الأقدام المتدافعة, نحو الأكوام المردومة على رمال يتفجر من باطنها حواف مغبرة لأغطية صوفية كانت تلم أجسادهم في ليال باردة......أوراق تناثرت لدفاتر فتحت للريح صفحاتها, شاهدة على عيون قرأت وخطت عليها.. واليوم جاءت تبحث عنها..... والمرأة تقترب جبهتها من الحائط الخرساني المتهدم, تمد يدها لأحجار ثقلت في كفها.. تنادى بحنجرة مذبوحة:
-قد تكون هنا.. ارفع معي يا باسل.
.....تخرج أوراق تنظرها, تقربها من ملامح وجهها فتتصلب عيناها عليها يقترب منها باسل فتريه ما بيدها قائلة:
-بيتنا في الرملة.. واليوم تهدم هذا البيت...
-أمي لا تنس أنه كان بإذن من وكالة الغوث والأمم المتحدة, ولم تكف أياديهم تلاحقنا.
انظري إلى جيدا يا أمي قد أكون الآن مسجيا في ثلاجة الخضار مع رفاق لي ينامون على تلال رملية زهرت وأخصرت بأياديهم.. لم تعد تسعهم ثلاجات الموتى في مستشفى يوسف النجار..... صرخ أبو جابر رافعا سقف بيته بكلتا يديه.. قطعة من الصهريج الصدىء..
-هجرة أخرى لنا.. كثير علينا بيت من صفيح.
وألقى بما حملت يداه وعاد يدوى بكلماته:
-قد يرضى الآخرون.. قد يرضون.
لمت جوالها الكتاني في صدرها بنظرات راحلة لأبعد من قرص الشمس وراء قوس قزح آفل.
وتعود من رحلتها الطويلة لتحط على موطىء قدميها تنظر تنظر إلى الصغير وقد عثر على لعبته البلاستيكية وجاروفه.. يجرف به الرمال ويهيل بها في العربة, يتعثر بالأحجار..... ويعود يرفع الرمال بجاروفه يلقى بها في عربته البلاستيكية حيث سيمضى بها بعيدا نحو أمه الراحلة نحو الشرق حيث مدينتها البعيدة..."
تتناول القصة واقعة هدم بيوت من صفيح لبعض الفلسطينيين, شيدت البيوت بتصريح من وكالة الغوث, وهدمت بفعل القوات الإسرائيلية. تجمع الأم أشياءها, والكل ملهوف على شيء ما, الكبار والصغار.. وعلى أمل يرجونه يعاودون الرجال إلى الشرق, إلى هناك, إلى حيث الرجاء, ولكن بلا يقين حقيقي.
التقطت عيون "الكاتبة" بطفل بين الأجساد المنهكة الحزينة, سجلت انشغاله بلعبته.. العربة البلاستيكية.. وهنا بيت القصيد كما يقولون. كل ما فعله الصغير, أن ملأ عربته بالتراب والركام, وجرها أمامه. بينما تعلق الجميع بأشياهم الحياتية الضرورية واليومية.. تعلق الصغير بتراب بيته, بتراب الأرض. كأنه شاء أن ينقل البيت والأرض إلى حيث يحط ثانية, ولا شيء غير ذلك.
عنوان القصة "بوابة السلام", فلا حيلة لنا إلا أن نفهم أن بوابة السلام هي الحفاظ على الأرض. فالعنوان دال وموحى وراصد للمغزى.. أو معنى "السلام" عند الفلسطيني. كأنها أرادت أن تقول: لا سلام إلا باحتفاظ الفلسطيني بحقه في الحياة على أرضة
قصة "وفى فلسطين من الموت تولد الحياة".. "سناء أبو شرار"
" وجدت هويتي في أعماق زنزانتي, وهويتي الجديدة هي فلسطيني مجاهد, لم أدرك المعنى الحقيقي للهوية إلا بعد دخولي هذه الزنزانة!!......وبعد زمن لا أرقام له ولا ساعات يفتح ذلك الباب الصدىء, وتسحبني أيد خشنة, فيرقص قلبي فرحا, لأن حبسي في تلك الزنزانة قد انتهى واستعد لاستقبال المرحلة التالية.... أوقفوني أمام باب آخر, وقذفوا بي إلى الداخل, إنها زنزانة طولها متر واحد فقط, وعرضها متر واحد, ويوجد مقعد صغير يجب أن أجلس عليه, وأمامي ضوء أحمر قان يرسل شعاعا حارا ومزعجا للعيون..... أجلس على المقعد الصغير, ويوجه جهاز التكيف البارد باتجاهي, وتزداد برودة الهواء, كلما مرت الدقائق ازداد ارتعاش ركبتي واصطكاك أسناني..... يفتح الباب الملعون من جديد وينقلونني إلى غرفة واسعة معلق في وسط سقفها ضوء أصفر له رائحة العفن والموت. الجالس مقابلتي: "لا تبحث عن مقعد... ولن تقف على ساقيك الاثنتين.." ويضحك!.... لم أكن أتصور من قبل أن للعصا لغة طليقة, وواضحة بتلك الصورة, وأنها أشد تعبيرا عن القسوة والحقد من كل كلمات الأرض.... يعرفون حضور الموت أكثر من أي شخص آخر, يتوقفون عن الضرب ويقذفون بي في أحد أركان الغرفة, ولا ينسون بالطبع رفسي بنعالهم.... ساعات أو أيام أو ربما سنوات أعتقد أنها مرت منذ أن قذفوا بي في أحدى الزنزانات, واستسلمت إلى نوم, تتصارع فيه الكوابيس والآلام.... لم أعد أذكر عدد الأيام التي مرت, أو الأعوام, أو الساعات فلم يعد للزمن أي منظومة.... لأول مرة أعرف ما المعنى الحقيقي للجنون وأكره ضعفي الشجاع أمام قوته الجبانة, ولأول مرة أسمع صوته المليء بالحقد: "هل تريد النوم أيها القذر.."..... ويحضر شخص آخر, واشتم رائحة العطر الثمين: "هل تنوى الاستمرار طويلا في تلك اللعبة الصعبة..؟"...
تحسست عظامي فبدت كأنها ملتصقة بذلك المقعد الخشن... أحاول أن أنهض, فيرتطم رأسي بسقف الزنزانة المنخفض... تمضى الساعات, وأقاوم حاجتي الطبيعية... يفتح الباب يوميا وتقذف إلى داخل الزنزانة صينية بها شيء ما من الطعام...
داخل زنازين الموت, وفى أعماق هذه الألوان السود, وديدان المقابر تنبت الحياة من جديد بعروقي... لقد تعمدوا تسليط ذلك الضوء دقائق طويلة... ربما مرت ثلاثة أيام... لم يعدهناك شعور بالوقت..... نزعوا ملابسي, وربطوا قدمي بعضها ببعض, ثم حملوني وعلقوني في سقف شرفة... أصبح جسدي يترنح في الهواء طوال الليل, والبرد قارس ينهشه..... غبت عن الوعي... لم ادر كم مر من الوقت.... "
تتابع القاصة في حوار هام بين المعتقل والطبيب, حيث تثار قضية "السلام":
" ونفس ذلك الوجه الغريب, سمعته يقول لي بلهجته العربية المكسرة: "حسنا يا أحمد, انك بخير الآن. هيا انهض قليلا, ولتحاول شرب الدواء..".... سألته شيئا: "لماذا تصر على مساعدتي ؟ ألست واحدا منهم؟ انك لا تساعدني, بل تشارك في التعذيب"
"أنا أفهم ما تريد أن تقوله, ولكن عملي يجبرني على ذلك....."
"ربما لديك شيء من الضمير الانسانى, لكنك لا تعرف شيئا عن الضمير الوطني..."
"أنت معي في غرفة مخصصة للعلاج, لا في ساحة حرب.... "
" وفى غرفة التحقيق لن تكون إلا مخلصا لصهيونيتك...."
ثم قال الطبيب الاسرائيلى:
"لأول مرة أقول هذا لعربي, ولكنني لست مع ما يجرى هنا, وأنا أرفض كل هذا العنف, وأؤمن بالسلام بيننا!!"
"أنت ترى في حلم السلام راحة لضميرك الذي يؤلمك, وأنا أرى به مهزلة كبيرة, فعن أي سلام تتحدث؟... وليبدأ هذا السلام بإزالة غرف التعذيب.."
وتابعت القصة أحداثها بمزيد من التعذيب حتى دمرت شيئا ما في جسد هذا الشاب قد لايمكن علاجه. وهو ما جعل المعتقل – فيما بعد – لا يتحمل حياة الاستقرار في منزله, وخرج للجهاد ثانية ضد الاحتلال.
الآن ترى كيف يرى العربي المعتقل تحت التعذيب والطبيب الاسرائيلى المعالج "السلام"؟
يعبر الفلسطيني عن دهشته, أن يفيق بعد التعذيب ليجد أمامه طبيب اسرائيلى يعالجه؟
يسأل مستفسرا: هل هو "الضمير"؟!..إلا أن الكاتبة اشتقت صفة جديدة استبدلت بها المعنى المباشر للضمير..ألا وهو "الضمير الميت", "إن الطبيب الاسرائيلى يحمل ضميرا ميتا, يدفعه لعلاج العربي حتى يعاود رحلة العذاب الجديدة!". وهى رؤية تحمل في طيها عدم الثقة في سلوك الطبيب وان بدت لعلاجه. لذلك أخبره: "انك لا تساعدني, بل تشارك في التعذيب" حيث يتجدد التعذيب بعد الشفاء.
بينما يرى الطبيب الاسرائيلى أنه مخلص لعمله, وليس في الأمر استدعاء لمعنى "الضمير", بل هي الطاعة لأوامر القادة العسكريين, حيث يعمل في الجيش. مجددا يسعى المعتقل أن يجد تفسيرا: "ربما لديك شيء من الضمير الانسانى, لكنك لا تعرف شيئا عن الضمير الوطني"
كأنه بذلك يفصل الطبيب كونه إسرائيليا وكونه صاحب مهنة إنسانية..وهى قضية قابلة للمناقشة, وتعبر عن سعة صدر وتفهم لبعض الإسرائيليين (حسب رؤية القاصة).. إلا أن المعتقل ردد مقولته في أسلوب دهش معبرا عن الحيرة, مما يشير إلى عدم الثقة.
أما الطبيب الاسرائيليى فلا يرى في سلوكه ما يسبب الدهشة, وبرر سلوكه بقوله: أنت معي في غرفة مخصصة للعلاج, لا في ساحة حرب".
عاد وعبر الطبيب عن رفضه كل هذا العنف في معاملة المعتقلين الفلسطينيين..حيث أنه يؤمن ب"السلام" بين الفلسطينيين والاسرائليين.
عاد وفسر الفلسطيني سلوك الطبيب بأن مفهوم "السلام" عند الطبيب "ذاتي" محدد بإطار إراحة الضمير, وهو مفهوم ضيق للسلام, ولا يعبر عن الرغبة في السلام الحقيقي والشامل.
عاد وأكد الفلسطيني على "السلام" الحقيقي بقوله: "ليبدأ هذا السلام بإزالة غرف التعذيب"..إذن مفهوم السلام عند الفلسطيني ارتبط بتوفير الحقوق المدنية والحق في الحياة المستقر للشعب الفلسطيني..(وهى رؤية تضاف إلى ما سبق من الرؤى في مفهوم السلام).
aB_negm@yahoo.com
http://www.originality.jeeran.com/رؤية الفلسطينى للسلام.doc
http://www. originality.jeeran.com /najmbook.JPG
http://www.nazmi.org/رؤية الفلسطينى للسلام.doc
http://www.nazmi.org/najmbook.JPG
|