'متحف البراءة' لأرهان باموك:
رواية موسوعية عن اسطنبول وبحث في حياة المدينة وسط حداثة زائفة
ابراهيم درويش
18/01/2010
رواية التركي ارهان باموك الحائز على نوبل 2006 تبدو اكثر تجريبية من غيرها من رواياته السبع السابقة، فمن ناحية الاسلوب يغرق الراوئي في تجربة المرواغة وخداع القارئ بتبادل الادوار والظهور داخل النص الروائي كواحد من الابطال الذين يتلاعبون بالاحداث فهو الراوي والبطل.وهذا وان لم يكن جديدا عليه حيث بدا واضحا في روايته قبل الاخيرة 'ثلج' لكنه يبدو اكثر وضوحا اذا اخذنا بعين الاعتبار ان روايته ليست عن قصة حب رومانسية ذات طابع تراجيدي لكنها عنه وعن مدينته وذاكرة اسطنبول الماضية التي حدثنا عنها في مذكراته 'اسطنبول' (2003) وكما بدت الاخيرة متحفا للذاكرة والتاريخ الماضي فهي الان متحف للبراءة وهو عنوان الرواية، 'متحف البراءة'، التي ظهرت ترجمتها للانكليزية هذا الشهر وبترجمة مورين فريلي. وتظل الرواية كما هي الروايات المعاصرة تحاول اغراء القارئ بصدقيتها وصدق شهادة رواتها وعدالتهم، فمن ناحية الشكل يقص علينا باموك قصة تركيا المعاصرة في منتصف الخمسينات مع ان الراوية لا تبدأ في الحقيقة الا عام 1975 وتنتهي عام 1984 بوفاة البطلة او الحبيبة لكنها ( الرواية) تعود بنا اماما وخلفا وتحفر في الماضي التركي منذ اتاتورك وتعود الى الماضي العثماني القديم. وعليه فالقصة تقدم الينا من خلال 83 فصلا قصيراً وخفيفاً باستثناء الفصل 24 وهو حفل عقد القران الذي يقدم في اكثر من 44 صفحة (103 -147). وفي نهاية الرواية يقدم لنا باموك مسردا باسماء الابطال واماكن ظهورهم في الكتاب. وقد استعاض بهذا المسرد عن قائمة المراجع التي يذكرها ويتخذها كمرجعية تاريخية وادبية لحكاية قصة تركيا الحديثة وهي مراجع عن الثقافة الشعبية والسينما التركية والموسيقى وكتابات المستشرقين والادباء من دوستوفسكي الى بروست وناباكوف واخرين تحضر اسماؤهم هنا وهناك في سياق سرد قصة حب البطل كمال بيه وفوسون وتجلية اجواء الحزن الذي دائما ما يخيم على مدينته اسطنبول، والبحث مثل فيلسوف عن معنى السعادة والحب والفقد والنسيان. ففي المدينة الشرقية لا بد ان يكون الحب مدمرا ولا بد ان يكون عشقا على طريقة ' ليلى المجنون' وهو العشق الذي ينتهي بأبطاله إلى الجنون والبله. اللافت هنا ان شقي الرواية هما كمال بيه واخوه عصمان 'عثمان' الذي يبدو شخصية ثانوية في الرواية ولكن وجود كمال بيه لا يمكن تخيله بدون عثمان ببساطة فترتيب فصول الرواية وطريقة سردها يوهم القارئ بأنه يتعامل مع عمل اكاديمي، فالسارد هنا يذكرنا دائما ويحيلنا بشكل متكرر للاحداث الماضية ويقول بلغة الكاتب الواثق من معلوماته ان هذه الشخصية ظهرت هنا وان الاحداث بدأت كما يقول في ' الالف والتسعمئة وخمس وسبعين'هكذا بالحروف بدلا من الارقام.
الحب في زمن الكوليرا ـ على الطريقة التركية
تبدو الرواية في ملمح من ملامحها تذكيرا بماركيز 'الحب في زمن الكوليرا' من ناحية ملاحقة البطل للحبيبة حتى النهاية لكن بطلنا لم ينتظر سوى 8 اعوام قضاها الى جانب الحبيبة وفي بيتها تناول 1593 وجبة عشاء بعد الدعوة المفتوحة التي وجهتها له والدة فوصون، نسيبة هانم على مدار 2864 اي 404 أسابيع حيث كان يذهب كل سبت لبيت العائلة وخلالها جمع 4212 عقباً من اعقاب السجائر التي دخنتها فوصون اثناء الزيارة ولعب 'الطمبلة' ومشاهدة التلفاز وشرب العرق 'راكي' وهذه الارقام والتواريخ مهمة لان الكاتب هنا يحدثنا كمدير للمتحف الذي اقامه تخليدا لذكرى فوصون والحب وذاكرة اسطنبول، فهو يذكرنا لاحقا ان كل عقب مر من شفتي فوصون له قصة كتبها وسردها تحت كل عقب علقه على جدار المتحف. وعليه يفهم هوس السارد بالمعلومات والتواريخ والارقام وتأكيد اقواله اما من شخص اخر 'باموك' نفسه او كتاب وقصاصة جريدة تعود لتلك الفترة، صورة او حكاية من شلة الاصدقاء شهود قصة الحب.
لوليتا تركية
وحول طبيعة الحب هنا من يطرح ملاحظة اخرى ان 'متحف البراءة' هي نسخة ناباكوفية تركية ' لوليتا تركية' من ناحية طبيعة العلاقة التي تمت بين صبية دخلت عند لقاء كمال بيه سن الثامنة عشرة، فيما كان عمر كمال ثلاثين، مما يطرح اشكالية حول طبيعة خيارات الفتاة وهي قريبة بعيدة لكمال بيه استبعدت عائلتها بسبب قرارها المشاركة في مسابقة ملكة جمال تركيا، لحسن الحظ لم تتقدم لكن فكرة المشاركة في مجتمع تركيا المنفتح والمتحرر كانت خروجا على التقاليد. ومن هنا قطعت عائلة كمال بيه العلاقة مع العائلة. وهناك من يرى في الرواية الجديدة على انها عودة لعصر البراءة وتذكير برواية ايديث وارتون ' عمر البراءة' وكل هذه التمثيلات يمكن تقبلها او التعامل معها بايجابية من خلال تعاملنا مع تجربة باموك التي ظلت متجذرة في تقاليد الرواية الاوروبية فهو ابن مدرسة الرواية الاوروبية وممثليها: دوستويفسكي وبروست وجويس وناباكوف وبورجيس وفولكنر .وكما قال انه كان يكتب ' بعين مفتوحة على الغرب' فقد تعلم من دوستويفسكي الطاقة والتأكيد على الكتابة، ومن ناباكوف الاهتمام بالتفاصيل التي تعود الى طفولته ومن براوست القدرة على اختراع الحكايات الخيالية عبر استحضار الطفولة.
ضد ادب الريف
تظل رواية باموك الجديدة وحتى تجربته الراوئية متجذرة في التقاليد الروائية التي اكدها الراوئي التركي احمد تانبينار (1901 - 1962) والذي قابلناه في اسطنبول مع اننا لسنا بحاجة الى قراءة الاخير كي نستمتع بروايات باموك الذي يكتب بلغة عالمية انسانية مساحتها اسطنبول. ويظل قريبا من نماذج الكتابة التقليدية الغربية، اكثر من قربه من التجربة الروائية التي عبرت عنها الواقعية الاشتراكية ورواية اليساريين الاتراك من يشار كمال ونيسين فكمال الذي يعد ابا الرواية التركية الحديثة قدم رائعته ' محمد الناحل' واخرى مثل جريمة سوق الحدادين وباب القلعة وعبرت عن ادب الريف او القرية ومن هنا يقال انه عندما اخبر باموك احد اقاربه بقراره بالتفرغ للكتابة الروائية جاءت الاجابة الطبيعية من القريب 'انك لم تزر قرية في حياتك' فباموك هو ابن الطبقة الثرية التي حافظت على تراثها من الغنى والتراتبية الاجتماعية ورواياته تظل تدور في سياق هذا العالم، الذي لم يذق يوما ابطاله اضطهاد ارباب الاراضي ولم يعرف عن الفقر وجرائم الشرف التي كانت تيمة خاصة في السينما التركية الشعبية. ومن النادر ان يغادر ابطال باموك المدينة للقرية. فمشاكلهم دائما نابعة من طريقة رؤيتهم لانفسهم مقارنة مع الغرب.
باموك والعثمانيون الجدد
ولهذا تظل الذاكرة مسرحا هاما لاعماله والحفر فيها وعنها وانشغالا مهما من انشغالاته، فهو مهتم بالكشف عن التناقض والهشاشة والتوزع والانفصام في الشخصية التركية نظرا للعلمنة والتغريب القسري الذي مارسته مؤسسة كمال اتاتورك عندما اجبرت التركي على التخلي عن ماضيه ' الرجعي' وكل ما يذكر بالعثمانيين مع انها لم تكن قادرة على محو الاثار العثمانية ليس في اطارها الجسدي بل من ناحية تجذرها في الروح التركية التي ظلت اسلامية. ولهذا ينظر الى ان باموك اول من احيا التاريخ العثماني ويمكن ودون تردد نسبة ' العثمانيين الجدد' اليه واعماله الروائية قبل ان يتجسد سياسيا من خلال المؤسسة الحالية وسياساتها المتمثلة بحزب العدالة والتنمية، لأننا عندما ننظر الى مجمل التجربة الروائية لباموك نلحظ هذا الهام من 'الكتاب الاسود' و 'اسمي احمر' و 'القلعة البيضاء' وبروزها الاشد في مذكراته عن 'اسطنبول' كلها تشير الى هذا المنحى الذي حاول تفكيك اسطورة النشوء التي قامت عليها الكمالية وتركيا الحديثة. ويبدو هذا واضحا في مواقفه السياسية التي سببت له اشكاليات مع القوميين الاتراك من ناحية تجرئه على التعامل مع قضايا حساسة مثل مذبحة الارمن عام 1916 واشكالية الاكراد الذين يسمون 'اتراك الجبال'، ولكن الاهم من ذلك وهو ما تتضمنه الرواية الاخيرة هي قدرته على تعرية الرضوض في النفسية التركية ومعنى ان تكون غربيا. خلاطات كهربائية من دون قطع غيار فالطبقة الغنية التي تتسوق في باريس وهارودز في لندن وترسل ابناءها الى المدارس الاوروبية والخاصة تظل محافظة في العمق. التحرر مقبول في المظهر ولكن فكرة العذرية والحياء والعار تظل حتى في المجتمع الراقي امرا اشكاليا، فالتغرب هنا ليس الا قشرة، طبعا هنا نتحدث عن ظروف تركيا في الستينات والسبعينات التي كان فيها، كما تنورنا الرواية، ابناء هذه الطبقة يتنافسون على امتلاك كل ما هو جديد واوروبي، آلات حلاقة كهربائية، خلاطات وآلات لصنع المايونيز دون ان يعرفوا ان قطع الغيار غير متوفرة في تركيا مما يعني تحولها الى خردوات وصورة عن ماض قريب. وفي الوقت الذي كانت الدولة تتحكم فيه باستيراد البضائع الاجنبية الا ان كل ممنوع كان متوفرا من الخمور والدخان المهرب عبر البحر والمباع في السوق السوداء. اسطنبول التي يقدمها لنا باموك هي تلك التي كانت فيها المكالمات الدولية نادرة والهواتف العامة غير موجودة. وهي تركيا التي لم تعرف المشروبات الغازية الا من خلال اول مصنع اقامه صديقه زعيم' لبيع اول ماركة ميلتيم' قبل ان تدخل كوكا كولا وغيرها من الماركات. وتركيا التي يقدمها لنا في ' متحف البراءة' هي تلك التي كان مجتمعها الراقي يعيش على النميمة ويتنابز بالالقاب، وهي تلك التي كانت فيها اصوات الانفجارات والصراع بين اليسار واليمين على اشده والانقلابات العسكرية لا زالت شكلا عاديا من الصراع على السلطة. وهي تركيا التي كان يقاس فيها تحرر الشخص من خلال قربه من ' التقاليد' اي اشكالية فلاح ومدني. فيما كانت دور الازياء الراقية تزيف الماركات وتنقلها من مجلات الازياء وتبيعها لهذا المجتمع المتخم بالمال والمتعطش لكل ما هو غربي. هذا المجتمع الفوقي كان يدعي الحداثة ويشرب العرق المحلي الصنع حتى السكر. هذه اجواء ضرورية لفهم رواية باموك ' متحف البراءة' فهي تحيل من خلال ابطالها الكثر على الواقع وتتخذ من التاريخ والماضي اطارا لرسم معاناة الشخوص وفكرة ان تكون تركيا حديثا في العقود الاخيرة من القرن العشرين. ومن هنا وجد باموك من التاريخ ومتحفيته اطارا لرسم تفاصيل هذا العالم الذي يبدو بعيدا رغم انه تمظهر في مجتمعاتنا كما في تركيا. فمن خلال المتحفية هذه نفهم طبيعة التحولات التي واجهها المجتمع، سياسية، ثقافية واجتماعية. كيف لنا ان نسرد تاريخ وذاكرة مدينة ضمن هذه التصورات. ارهان باموك منشغل دائما بالكشف عن الذاكرة الحاضرة والماضي في مجتمع متغرب ومتعلمن هو تركيا وهو ما يمكن ملاحظته في كل رواياته التي كان آخرها 'متحف البراءة'.
قبلات وحب في شقة
ما سبق هو اطار للقضايا التي تحتفي بها الرواية، تسامح وحب وحرية فردية وشوق انساني للسعادة ولكن الرواية التي تبدأ بفصول عن القبلات والعلاقات الجنسية تدور حول كمال بيه وهو ابن رجل اعمال يدير مع اخيه شركة والده 'ساتسات'، ونعرف انه متعلم في امريكا لكنه لا يعرف من الحب الا تلك الصور التي شاهدها في التلفاز او السينما ولم ير مشهد تقبيل الا اثناء دراسته. يلتقي كمال قبل حفل قرانه بفتاة تعمل في محل للملبوسات الراقية ويعرف فيما بعد انها قريبة له استبعدت عائلتها بسبب مشاركتها بمسابقة لملكة جمال محلية، حيث اعتبر التصرف خروجا على التقاليد مع ان ام الفتاة نسيبة هانم كانت تأتي لخياطة ملابس لوالدته. سبب دخول كمال بيه محل 'شانزليزيه' هو شراؤه حقيبة يد لخطيبته، سيبل، التي نعرف انها ابنه دبلوماسي سابق ومتعلمة في فرنسا وجميلة وكل من حول كمال يرى انه اختياره لها كان مناسبا وانهما زوج مثالي. لكن كشف والدته عن سر عائلة الفتاة واسمها فوصون التي يعجب كمال بجمالها واكتشافه ان الحقيبة مزيفة يدفعه لمغامرة اخرى والعودة الى المحل تحت ذريعة اعادة الحقيبة وعندها يتعرف على الفتاة اكثر وانها تدرس لامتحانات الثانوية. والكاتب هنا لا يصور لنا دوافع فوصون الاستجابة له ولقاءه في شقة تعود للعائلة وقرارها منح نفسها له ـ اي عذريتها ـ حيث يبدأ الاثنان علاقة حب ساخنة ويجربان فيها كل الوان الحب. كل هذا يحدث وكمال يحضر لقرانه من سيبل التي تبدو متسامحة وحريصة على خطيبها. تنتهي العلاقة قبل ايام من حفلة القران. لكن اثرها سيكون مدمرا عليه وعلى علاقاته مع خطيبته واصدقائه وعائلته وعمله ورؤيته لنفسه. كان كمال بيه يقضي ساعات الغذاء مع فوصون في عش الحب الذي تحول لمتحف الذاكرة وفيه سيقوم كمال باستعادة كل الاشياء واللحظات ويشم كل الاشياء التي تركتها تلك الحبيبة التي اختفت من المشهد، تركت العمل وتركت البيت مع والدها لنعرف انها تزوجت من اخر يعمل في مجال السينما وكتابة النصوص.
البحث عن الجانب الاخر للمدينة
فقدان كمال بيه اللحظات الخاصة والمحرمة وخيانته لخطيبته هي مجال سرد الاجزاء الاولى من الرواية اذ نجده ضائعا موزعا بين خطيبة وفية وحبيبة عصية ومن خلال هذا التوتر نفهم الحياة وذكريات البطل عن المدينة وناسها، فهو يتذكر انه قابل البنت فوصون وهي صغيرة في عيد الاضحى مرة، وكيف انه ذهب معها للبحث عن ويسكي في دكان قريب وكيف شاهدا عملية التضحية بخرفان العيد في ساحة البيت. وكيف خافت فوصون في تلك المرة، ثم الفسحة التي قاما بها بسيارة والده مع السائق بحثا عن الخمر وكيف كانت اسطنبول في يوم العيد مثل مسلخ يجري الدم في حي من احيائها. لم تكن علاقة كمال وفوصون عابرة بل دخلت في دمه وكان خروجها من مجال نظره مدعاة للموت البطيء بالنسبة له. في البداية تعترف خطيبته بالوضع وتحاول مساعدته نفسيا وتأخذه لاول عيادة تحليل نفسي تفتح في المدينة. ولكن العلاج النفسي لم يكن مفيدا له، اذا انه على خلاف الكثيرين ممن يرتكبون خيانات لم يكن قادرا على التخلص من اثر وحب ' فتاة الدكان' كما تشير اليها خطيبته، في الماح الى البعد الطبقي للمجتمع التركي ذلك الوقت. ولم تنفع محاولات سيبل لتخليصه من حب الفتاة سواء بالانتقال معا إلى شقتها او تشجيعه على التركيز على عمله فقد ظل اسير لحظاته مع فوصون وحس الفقدان ظل يسكنه ويأكل روحه ويضعف جسده. وتصل الامور الى حالة تقرر فيها سيبل زيارة باريس مع صديقتها نورجيهان للتسوق. كان كمال بيه يعرف ان رحلتها ستكون اعترافا بان عقمه معها بداية تصدع في العلاقة وستعود ثم ترحل الى فرنسا لاكمال الدراسة ورحلتها الثانية ستكون آخر مرة يراها فيها، بعد ان فسخا الخطبة ولن يسمع باخبارها الى بعد 30 عاما حيث ستقترن بصديقه زعيم. رحلة خطيبته تعطيه الفرصة للبحث عن حيبيته الضائعة ومن خلال هذا البحث يتعرف على الجانب الاخر من اسطنبول واحيائها الفقيرة. يسكن في فندق بحي الفاتح ومنه يبدأ رحلة جديدة من حياته يقطع صلاته مع عالمه ويهمل عمله وتدور الشائعات حوله من انه اصبح صوفيا او شيوعيا ولكن رحلاته في داخل الاحياء الفقيرة بمدينته ستكون جذور متحفه، حيث اخذ يراكم المقتنيات له. ولن يخرجه من عزلته وتشرده الا وفاة والده حيث يعود لبيت العائلة ويعيش مع والدته. المرحلة الاخرى من حياته عندما تعود فوصون مع زوجها فريدون وتصبح زيارات كمال بيه لبيت العائلة متكررة وبعد الدعوة المفتوحة يصبح فردا من العائلة كل هذا من اجل ان يكون قريبا من حبيبته '. يذكرنا هذا بجميل في مسلسل دقات قلب التركي' وكما ذكرنا فقد حدثنا الراوي عن عدد الزيارات والمرات التي تناول فيها العشاء. في النهاية يقترب كمال بيه من فوصون بعد طلاقها من زوجها. ولكن قصة الحب لم تنته بنهاية سعيدة اذ تموت اثناء رحلة لهما الى اوروبا في حادث سير. على العموم هناك مقاربة بين مسلسل دقات قلب والرواية ويبدو ان كاتب نص المسلسل استلهم كثيرا من الرواية لكن كل هذه الاحداث ليست مهمة فالنص لا يكشف لنا عن صورة فوصون او سيبل الا بقدر وتظلان شخصيتين هامشيتين على الرغم من مركزيتهما للنص هنا، وما يهم هو ما يكشفه لنا كمال عن نفسه ومدينته وقدره فوالده احب مثل ابنه امرأة اخرى لكنها تركته لتتزوج بعد ان اكتشفت تردده ليعرف لاحقا انها لم تتزوج وماتت بالسرطان.
كل معلومة لها تاريخ
كل مفصل ونقطة وملمح او قطعة في ' متحف البراءة' تحمل الكثير من الدلالات التاريخية والثقافية والسياسة ومعها ينفتح الباب على التفسير والقراءة ومن هنا تنبع اهميتها فاقدار الابطال لا تعنينا بقدر أن ما يهمنا هو الذاكرة وما بقي منها. ويبدو باموك مثل طبيب تشريح او حارس للذاكرة يذكر طلابه او زوار متحفه الحي بكل شيء. كل ما يريده كمال هو ان يكون مواطنا صالحا 'تركيا' اصيلا لكنه متشوش حول الكيفية التي يزاوج بين تركيته وحداثته وهذه هي ازمة تركيا التي ظلت تدور بين الطربوش والقبعة. لكن مشكلة بطلنا انه كان يعيش في زمن التحولات والخيارات الصعبة ليس للدولة التي اختار لها كمال مسارها ولكن الجيل الذي كان يشهد هذه التحولات. والاشكالية تبدو معقدة لان الكاتب او البطل هو ابن ثقافة السبعينات المعروفة بتحررها ولهذا نلاحظ التردد ليس لدى بطلنا لكن كل من يحيط به. التحرر والحداثة تبدو مزيفة لان كل الاشياء التي تتداولها الطبقة الراقية مزيفة من السجائر الى الخمر الى حقائب ومن هنا تشير سيبل الى اشكالية الحداثة بقولها ان الاغنياء في اوروبا لديهم القدرة على التصرف وكأنهم ليسوا باغنياء. في النهاية تظل الرواية محاولة للبحث عن النفس او 'المركز' ولا تتم معرفة النفس الا بالحفر الاركيولوجي ومن هنا الاشارة الدائمة من قبل السارد لنفسه باعتباره انثروبولوجيا.
باموك في حالة عشق للذاكرة ومدينته وكل شيء فقدته المدينة منذ ان انهارت دولتها. وفي الرواية الاخيرة تتحول المدينة الى متحف للذاكرة او البراءة
في مذاكراته عن اسطنبول تجسد تاريخ المدينة من خلال شقة معتمة مليئة بالتحف والاشياء من الماضي. كان باموك يحلم بان يكون فنانا واخذ يرسم لوحات يقلد فيها اعمال بيكاسو ومونيه لكن امه ذكرته ان الهواية او الحرفة التي يريدها لا سوق لها في مدينة متوزعة بين الشرق والغرب 'هذه ليست باريس'. في 'اسطنبول' وصف لنا تعلقه صغيرا بموسوعة اسطنبول من تلك الموسوعات للناشئين لكن روايته الجديدة بناسها واشيائها ومتحفها وكشفها عن عادات وتقاليد سكان المدينة هي موسوعة بحد ذاتها ولهذا كتبت على مرحلتين من 2001 -2002 و2003 - 2008
نجم ولد في الشرق
يذكر ان تعرف القارئ الانكليزي على اعمال باموك تمّ عام 1990 مع ترجمة روايته 'القلعة البيضاء' اي الرواية الثالثة حيث لم تتم ترجمة العملين الاولين ولقيت الرواية حفاوة في الاوساط النقدية الغربية حيث اعلنت ' نيويورك تايمز' عن ولادة نجم في الشرق ومنذ تلك اللحظة يقارن باموك بجويس وموزيل وكافكا وكالفينو ومن الكتاب المعاصرين يشبه بول اويستر وهاروكي موراكامي. وانتج باموك سلسلة من الاعمال ومعها جاءت الجوائز امباك عام 2003 وجائزة الكتاب الالمانية عام 2005 ونوبل عام 2006، وفي نفس العام اختارته مجلة 'التايم' من بين مئة شخصية شكلت العالم منذ هجمات ايلول (سبتمبر).
ويقضي معظم وقته في نيويورك حيث يدرس بجامعة كولومبيا. وتنتمي عائلة باموك للطبقة الغنية وبنت عائلته ثروتها من بناء سكك الحديد في الايام الاخيرة للدولة العثمانية وخسرت معظم اموالها بسبب سوء الاستثمار وظل انتماؤه للعائلة ذات تاريخ ارستقراطي محل اهتمامه ومشهد العديد من رواياته ومذكراته.
ناقد من اسرة 'القدس العربي'
The Museum of Innocence
by Orhan Pamuk,
translated from the Turkish by Maureen Freely
Faber& Faber
London/ 2010
في 'عندما تشيخ الذئاب' تحطيم الأقانيم الثلاثة
وحوار الشخصيات الملغزة
يوسف الحوراني
15/01/2010
رواية 'عندما تشيخ الذئاب'، التي صدرت نهاية العام الماضي لجمال ناجي، تبدو معنية بإثارة الأسئلة التي تومئ إلى الأبعاد العميقة التي تشف عنها الأحداث السياسية والاجتماعية دون المباشرة بالتصريح عنها، وبهذا يصير المطلوب من القارئ أن يعيد التفكير في الأسئلة إذا أراد التعرف على إجاباتها بدقة، ولهذه المسألة حديث آخر سنأتي اليه لاحقا، ولكن قبل ذلك، لا بد من الإشارة إلى ما تتمتع به هذه الرواية من جاذبية هائلة للقارىء، وخوض جريء في الأقانيم الوعرة المعروفة : السياسة والدين والجنس.
السياسة
لا تبدو السياسة في هذه الرواية جماهيرية ولا خطابية ولا متحمسة، إنما هي أقرب إلى 'واقعية السياسي العربي' الذي يخوض نضالات طويلة ويقدم التضحيات ليقع في مرحلة من حياته أسير رغباته الدفينة في تولي السلطة، إنها الواقعية المقنّعة التي تبدو جلية في شخصية جبران اليساري، الذي يقرر متأخرا أن التغيير لا يتم إلا عن طريق المشاركة في السلطة ومن داخلها لا من خارجها، هذه النتيجة التي تبدو نتاجا منطقيا أملته أسباب النضج والشيخوخة على جبران، هي في حقيقتها نتيجة اضطرارية فرضتها الإخفاقات التي منيت بها الأحزاب السياسية في صراعها مع السلطات خلال الحقب الماضية، على أن المثير في المسألة أن جبران يوهم نفسه بالنتيجة الأولى متناسيا فشله وفشل الأحزاب والتنظيمات في الاقتراب من مائدة السلطة عن طريق المعارضة المزمنة، يقول جبران: 'أستطيع القول، بناء على تجربتي، إن أول ما يلفت انتباه المعارض حين يصير وزيراً، هو تلك الحيل النفسية التي تتكاثر وتتوالد لتخلق لديه يقيناً بأنه يستحق الوزارة بعد تاريخه النضالي الطويل'. لكن جبران لا يقر بهذه الحقيقة إلا بعد تقاعده وانتهاء دوره في الحياة العامة وابتدائه بكتابة مذكراته، مذكرات الذئب الذي شاخ أخيرا، وهو ما يتكرر بطريقة مختلفة، عند رجل الدين الشيخ عبد الحميد الجنزير الذي يعد واحدا من مروضي السياسيين وصناع الوزراء وباعة الحقائب الوزارية، فالجنزير ليس هاوياً أو مبتدئاً في العمل السياسي على الرغم من أنه يحرص على أن يتخذ مظهر الشيخ الحاني على تلاميذه، المتصالح مع ذئاب السياسة الذين يزورون مزرعته ليلا، بحثا عن مواقع لهم في الدولة! تمكن قراءة هذا التشخيص والوصول اليه من خلال ما ورد على لسان الشيخ الجنزير في الرواية، فهو يقول في وصفه رواد مزرعته: ' كانوا يجتهدون في تفسيرهم لأسباب إقالة هذا المسؤول أو ذاك، وتوقعاتهم بمن سيتسلم هذا المنصب أو ذاك، وما إذا كانت الحكومة ستتغير أم أنها ستعمر بضعة شهور كي تتم دورها في تحسين الأوضاع الاقتصادية، أو حل مشكلة داخلية تتعلق بالنقابات أو الأحزاب، أو إجراء الانتخابات النيابية، أو رفع الدعم عن بعض السلع والمستلزمات، أو تحسين العلاقات مع بعض دول الجوار، أو غير ذلك مما تقتضيه المصالح العامة، ولكي يؤكدوا سلامة اجتهاداتهم وتوقعاتهم، كان بعضهم يبوح بمعلومات تعد من أسرار الدولة'.
هنا تطل شخصية عزمي الوجيه من خلال ما يقوله الشيخ الجنزير عنه:
'عزمي الوجيه لمّاح. قال لي: من يحضرون إلى المزرعة أربعة أنواع، وزراء أو نواب نافذون وسابقون، مستوزرون أو مستنوبون، رجال أعمال وأموال، ونوع رابع من الطامحين بأمور لا يعلمها إلا الله وهم، لذا فهم باطنيون مشفرون'.
الصراع السياسي المزمن بين اليمين ممثلا بالشيخ الجنزير وبين اليسار ممثلا بجبران يستمر، لا يستسلم أحدهما للآخر، على الرغم مما شهده العالم من تغيرات وتحولات، فالشيخ يقول مخاطبا جبران اليساري بنبرة مفعمة بالثقة' قلت لك منذ زمن، أنتم أصحاب مبادئ ونحن أصحاب عقيدة، المبادىء لا تصمد كالعقيدة، لأنها فضفاضة وعمومية، حتى أنها تكاد لا تقول شيئاً مفيداً، أما العقيدة فواضحة وتقول كل شيء، وفوق هذا فهي من عند الله'.
لكن، على الرغم من كل هذا، فإنه ما كان لجبران أن يصير وزيرا لولا تصالحه الموسمي مع الشيخ الجنزير، وما كان له أن يتأهل للوزارة لو لم تتقارب المسافات بينه وبين رجل الدولة 'أبو رامي' الذي يصفه قائلا وملخصا الموقف السياسي للجهات التي يمثلها ' أبو رامي ليس ثرثاراً ولا مجاملاً في أفكاره، إنما أكثر ميلاً إلى تحليل الظواهر والأحداث بعقل بارد. فهو يؤكد أنه لا يجوز لأحد أن يتوقع منا مهاجمة إسرائيل أو السماح بمهاجمتها من أراضينا، لأن هذا يعد انتحارا. السلطة الفلسطينية نفسها لا تقر مهاجمة إسرائيل وتريد حلولاً سياسية معها. نحن نفعل ما بوسعنا على المستويات الدولية لمساعدة هذه السلطة. نستثمر علاقاتنا مع أمريكا وأوروبا وغيرهما لدعم القضية وإقامة الدولة الفلسطينية، لكن عن طريق العمل الدبلوماسي. أما ما تطالبنا به الأحزاب والنقابات وسائر الأوساط الصاخبة، فمحض ثرثرات غير محسوبة لا يمكننا الأخذ بها، ولو فعلنا مثلما يريدون، لتقوض استقرارنا الوطني الذي يعد مثالياً'.
هكذا تفكك الرواية خطاب المعارضة والسلطة وتنظر الى داخله لتشير الى البراغماتية التي يتسم بها السياسي العربي سواء كان في السلطة أم في المعارضة.
الدين
الدين في الرواية أشبه بشماعة تستخدمها بعض الشخصيات لتحقيق الثراء والاستحواذ على أكبر قطعة من كعكة المجتمع والسلطة، فهو لم يشكل متكأ جديا لإصلاح الخلق وتحسين صورة الحياة، حتى لدى 'الشيخ عبد الحميد الجنزير' الذي يفتتح مراكز تحفيظ القرآن ويداوي الناس بالأعشاب والتعاويذ والآيات القرآنية ويستولي على المنابر الدينية ويلقي خطبه أمام الناس ويتصوف في مرحلة من حياته ويجمع التبرعات لإقامة المساجد ومراكز تحفيظ القرآن وإعالة الأيتام، كما أن أتباعه الذين يريدون تغيير الأشياء بقوة السيف إنما يضفون بعدا يبدو للوهلة متطرفا كما هو الحال مع شخصية 'بكر الطايل' الذي لم يكن سوى غطاء استخدمه الشيخ عبد الحميد الجنزير لتمرير بعض غاياته.
أما الشخصية الملغزة في الرواية 'عزمي الوجيه' فقد بدأ حياته كواحد من تلاميذ الشيخ الجنزير، لكن قدراته العقلية وذكاءه أديا إلى منافسته للشيخ، وخروجه عن طوعه، وتحوله الى شخصية عامة غير متدينة، بعد أن اشترك مع الشيخ في اختلاس أموال مراكز تحفيظ القرآن والاستحواذ على عطاءات بناء المساجد والمؤسسات الدينية الخيرية في إطار استثمار صريح للمنابر الدينية، لكن عزمي الوجيه يختط لنفسه مسارا آخر مختلفا عن ذاك الذي ينتهجه الجنزير على الرغم من استمرار علاقته معه، وربما يعود سر هذه العلاقة إلى مسألتين أساسيتين هما، المصالح المشتركة التي جمعتهما، ورغبة الشيخ في الزواج من سندس التي تقيم علاقة شهوانية مع ابن زوجها عزمي الوجيه.
هذه الرواية تقدم نقدا لاذعا لممارسات رجال الدين الذين يقومون بتسييس واستثمار الدين بذرائع تتنافى مع النصوص التي يتم الالتفاف عليها من أجل تحقيق المنافع والغايات غير المشروعة.
الجنس
لا تسمح هذه المساحة الصحافية باقتباس الفقرات التي تتناول الجنس بجرأة، لذا سأكتفي بتسليط الضوء على بعض المقاطع التي تقدم صورة تقريبية لما تزخر به الرواية من إيحاءات جسدية.
يحتل الجنس في الرواية مساحة معتبرة، فهو يأتي تارة على شكل إيحاءات مثيرة للقارىء وعلى لسان سندس التي يسطع نجمها في الرواية، فهي تصف ابتداء علاقتها بزوجها الثاني رباح الوجيه قائلة 'تطور الأمر ليلة رآني في الزقاق بثوبي الوردي، فأمسك ذراعي برجولة أوحت لي بفحولة محشورة، ولزني إلى الحائط وقال : جهزي حالك، نويت أن أخطبك من أمك!. قالها بنبرة راقت لي، فاكتفيت بسكوتي المتواطئ، واسترجعتُ تلك اللحظات مراراً بعد أن أويت الى فراشي'.
هذه الإيحاءات الجنسية لا تلبث أن تتحول إلى بوح أو تصريح مباشر بسبب انحكامها إلى سياقات موضعية ومقتضيات تعبيرية وفنية في الرواية. يقول رباح زوج سندس الثاني بلغته الشعبية: 'متّعتني سندس ليلتها، لكنها فضحتني بضحكاتها العالية. وتوقعتُ أن تخجل مني ليلة دُخلتي عليها، لكنها عملت العكس، خلعت فستانها وما تحته وظلت بشلحتها القصيرة الشفافة!'.
الجنس في الرواية يتركز حول شخصية سندس التي تزوجت ثلاث مرات، وأقامت علاقة حب مع ابن زوجها عزمي الوجيه، وفي نفس الوقت، استمتعت بما لدى الجنزير من معالجات حسية تثير شهوتها.
لغة الجسد التي تستخدمها سندس، تتخذ أبعادا مختلفة حين نقرؤها على ألسنة الشخصيات الأخرى، كالشيخ الجنزير، جبران، رباح الوجيه، وحتى هذا الاختلاف فإنه ينطوي على اختلافات أخرى بين هذه الشخصيات في تفسيرها ووصفها للجنس الذي يعد واحدا من مرتكزات الرواية.
لنقرأ هذه العبارات التي وردت على لسان الشيخ عبد الحميد الجنزير: 'كان بيّناً أن سندس امرأة غير مروية، وأن رباح الذي تزوجها بعد موت زوجته الأولى جليلة، رحمها الله وأحسن إليها، لم يُشفِ وهدة بدنها من أدران رغائبها المحشورة، ولم يفِها حقها من الجماع وخلافه. قد يجازيه الله يوم القيامة بسبب تقصيره معها'.
هكذا يرى الشيخ الجنزير سندس زوجة رباح الوجيه من وجهة نظره، لكن رباح الوجيه يراها على نحو آخر، يبدو هذا جليا في ما ورد على لسانه: ' يا الله يا الله ما أحلى ليلة دخلتي عليها، شعرت أنها مختلفة عن جليلة حتى وهي صبية. جليلة لم تكن حامية مثل سندس. سندس نار نار'.
أما سندس فلها رأي آخر في كل منهما وفي عزمي الوجيه أيضا، وهو رأي قائم على الجوانب الحسية الحادة، حتى انها تصف الشيخ الجنزير قائلة 'عيناه المكحلتان بثتا في روحي وجسدي أحاسيس مبهمة، فهُما ليستا مجرد عينين بشريتين كتلك التي عهدتهما في الرجال، إنما هما مجهريتان تكادان تعريانني من ملابسي، وتدعوانني إلى لملمة نفسي خشية انكشافي أمامه'.
وتصف زوجها رباح في واحد من مفاصل الرواية على النحو التالي 'أمور كثيرة تبدلت في رباح، فقد تخلى عن طريقته السابقة في الحديث بصوت قوي، وصار ميالاً الى الهدوء والسلام. تخلى عن استخدام ذراعه النحيلة بقوة لتأكيد أقواله والتشديد عليها. لم يعد يرفع حاجبه الأيمن الذي يوحي بوجود نوايا ذكورية لديه'.
أما عزمي الذي عشقته فتتحدث عنه في مقاطع كثيرة من الرواية منطلقة من حالة الخنوع التي تنتابها أمامه حيث تقول 'تلك كانت المرة الأولى التي أذلني فيها عزمي الوجيه، ليس لأنه صفعني، إنما لأنه لم يستجب لفتنتي واشتعال الرغبة في جسدي. فعلاً لقد أذلني. وصار بعدها يتحدث إليّ بنبرة الأمر التي لا يجرؤ والده رباح على استخدامها، ووجدتُني راضخة له بنفس راضية'.
ولو قمنا بمقاربة ما ورد على ألسنة شخصيات الرواية لاقتربنا من الحقيقة المستترة في بانوراما الحوار الصامت حينا والصاخب أحيانا، فالشيخ الجنزير يقول - وكأنه يرد على ما ورد على لسان سندس من أن عينيه تدعوانها إلى لملمة نفسها خشية انكشافها أمامه 'حسبتُها حرثاً ميسوراً، ولولا مخافة ربي واستعاذاتي به من الشيطان في قلبي لاستجبت لنداء بدنها ووطئتُها وفعلت بها ما أفعل بزوجتي أم صهيب'.
الشيخ الجنزير في قوله هذا يكذّب الاحتشام الذي تدعيه سندس، وفي نفس الوقت يشتبك مع زوجها رباح الذي ينسى نفسه في لحظات ضعفه، ويفصح - في وقت متأخر من الرواية- عما يعانيه بالقول 'نعم، أنا اشتهيتها قبل وبعد زواجي منها، لكن، لم أعد أقدر عليها بعد أن تعودت على تحضير نفسها كلما غيرتُ ثيابي ولبست بيجامتي'.
بهذا تكشف المقاربة ما خفي من مقدمات الجموح التي ضلل رباح خلالها قارئه، كما تكشف النوايا الخبيثة التي يكنها الشيخ الجنزير لسندس التي لم تستطع إخفاء تسكعها الجسدي المؤقت معه وشهوتها المزمنة لابن زوجها عزمي الوجيه.
ما حقيقة سندس؟ وإلى أين تتجه بوصلة شهواتها؟ ولماذا تنقلت بين متاهات ثلاثة رجال يختلفون عن بعضهم؟ سواء من حيث المستوى الاجتماعي أم طرائق التفكير ام وسائل التعبير أم وسائل الاستيلاء على جسد تلك الأنثى التي ترى في استسلامها انتصارا لها!
القراءة المتأنية للرواية تبين أن سندس قد نذرت جسدها لعزمي الوجيه، وهو الشخصية الغامضة التي تظل محتفظة بأسرارها حتى النهاية، لكن بدايات الاتصال بينها وبين عزمي اصطدمت بواقع قناعاته الدينية التي تردعه وتمنعه من الاستجابة لرغباتها، وهو ما زادها إصرارا على تحقيق غايتها، غير أن التحولات التي عاشها عزمي فيما بعد أدت إلى تغير جذري في سلوكه إلى حد أنه انغمس في ملذاته معها متناسيا أنها كانت زوجة أبيه رباح.
يمكن القول ان جمال ناجي قدم لنا في هذه الرواية عالما زاخرا بالتفاصيل التي لا تمل، وشخصيات لا تتصالح مع الرأفة أو الرحمة، فحين تصل الأمور عند نقاط الصراع وتضاد المصالح، تستذئب الشخوص كي تكشف عن عروقها الزرقاء المثيرة للذعر، فجبران يتنكر لابن شقيقته عزمي الوجيه، بكر الطايل يحاول اغتياله، الشيخ الجنزير يكون عراب القتل والفساد بصرف النظر عن النصوص الدينية التي تحرم الفساد والقتل والتآمر، أما سندس، الأنثى التي 'تستثير الحيطان' حسب جبران، فإنها كسواها من ذئاب الرواية، تستشرس حين تفقد الأمل بعزمي الوجيه، وحين ينثني عود زوجها الثاني رباح، وحتى حين يتزوج زوجها الأول صبري أبو حصة من امرأة ثانية، فإنها تقوم بحرق جثته بعد موته.
بين كل هذه الذئاب، تبدو المدينة وادعة رخية على حد تعبير العقيد رشيد حميدات، ويستكين البسطاء أمثال رباح، وفاطمة أم سندس، وعدلي الطيب، وعتاب شقيقة بكر الطايل، وأمه، وصبري أبو حصة الذي لا يستطيع الذود عن روحه التي تناهشتها الذئاب.
إن كل شخصية في هذه الرواية تستحق دراسة منفصلة نظرا لثرائها النفسي والروحي والسلوكي والموضوعي.
«عندما تشيخ الذئاب» لجمال ناجي..
مسيرة الحياة الأردنية في عقدين
يوسف ضمرة
يستكمل الروائي جمال ناجي في روايته الجديدة (وزارة الثقافة، 2009) ما بدأه في روايته الثانية «وقت»، وتابعه في رواياته اللاحقة: «الحياة على ذمة الموت»، «مخلفات الزوابع الأخيرة» و»ليلة الريش»، وهو مشروعه الذي يتلخص في كتابة التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية الأردنية، منذ أواسط القرن المنصرم.
وقد لاحت ملامح هذا المشروع في روايته الأولى «الطريق إلى بلحارث» التي عدّها الكثيرون تجربة ذاتية -وقد تكون كذلك-، لكنها في الوقت نفسه تستنطق الواقع الاجتماعي الأردني في تلك المرحلة، حيث الهجرة المحمومة إلى الشرق، في ظل النهضة الاقتصادية التي أصابت منطقة الخليج بعد حرب تشرين.
وإذ يصر ناجي على استكمال مشروعه الروائي هذا، ويكتب حتى اليوم خمس روايات تتحرك في عمان فقط، فإنه يرتكب مغامرة كبيرة لم يجرؤ على ارتكابها سوى مؤنس الرزاز وزياد القاسم. وفي كل تجربة من هذه التجارب، يُلحَظ بعض الخفوت أحياناً، وهو أمر طبيعي ما دام أن المكان واحد، كما حدث مع الروائي الكبير نجيب محفوظ. فلا أحد يستطيع وضع روايات محفوظ القاهرية كلها في مرتبة واحدة.
ويمكن تسجيل إشراقتين لناجي في هذا السياق، هما «مخلفات الزوابع الأخيرة» و»عندما تشيخ الذئاب». ويبدو الأمر مقبولاً تماماً إذا ما استُحضر عامل الزمن، حيث يفصل بين الروايتين عقدان مكتملان من السنوات. وهو وقت يبدو كفيلاً بمراكمة تحولات كبيرة ملموسة، أكثر مما يمكن ملاحظته في ثلاث سنوات مثلاً.
والغريب في هذه الناحية، هو أن هاتين الروايتين هما أكثر روايات ناجي تخمة في الشخوص والحكايات والوقائع، على عكس رواياته الأخرى. وقد تمكّن في هاتين الروايتين من إدارة شؤونهما الداخلية في روية وأناة، ما يجعل المرء يعدّ «عندما تشيخ الذئاب» نقطة مضيئة في مسيرة الرواية الأردنية.
وقد تناول ناجي في هذه الرواية مسيرة الحياة الأردنية في العقدين الأخيرين، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي حتى الآن. لكنه تناوُل بعيد عن التأريخ والتوثيق. بل يمكن القول في ثقة، إن هذه الرواية واقع مستقل تماماً عن الواقع الموضوعي، وإن كانت تربطهما وشائج معروفة في نقطة ما. وهو شأن لا تنفرد به هذه الرواية فحسب، حيث الرواية عموماً واقع مستقل، الأمر الذي يدفع إلى تنحية المنطق التاريخي في القراءة، وإن كان لا يمكن الخروج عنه. أي أن ثمة قواعد جديدة للتعامل مع هذا الواقع الفني، مغايرة للقواعد الموضوعية، لأن التعامل هنا ليس مع كتابة تأريخية في أي حال من الأحوال، رغم الحضور الطاغي للتاريخ وعلاقته بالرواية. وعليه، فإن المبالغة الفنية تصبح أمراً مقبولاً، تماماً كالافتراق عن بعض الوقائع التاريخية التي جرت معايشتها.
لكن اللافت في الرواية، هو تمكن الروائي من السيطرة على حكاياته وشخوصه وأحداثه، رغم تمددها واتساعها وانفتاح مداها. كما أن الروائي لا يسرد التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية في سياق توثيقي، بمقدار اعتماده العلاقات الإنسانية المتنوعة بمفرداتها اليومية المألوفة. فالحياة السياسية هنا لا تنفصل عن الهموم الفردية والهواجس الإنسانية اليومية للناس في مستوى مواقعهم. كما غاب الهجاء الطبقي المألوف في روايات عدة من قبل. ويبدو أن بروز الإسلام السياسي والاجتماعي والثقافي في العقدين الأخيرين، كان وراء اختفاء هذا الهجاء.
بُنيت الرواية في الأساس على بروز هذه الظاهرة، وصعودها وتناميها، لا في الأردن فقط، بل في المنطقة كلها. ويبدو واضحاً أن الشخصية الرئيسة في هذه الرواية هو الشيخ «عبد الحميد الجنزير» الذي تدور الشخوص الأخرى في مدارات عدة في فلكه، بحيث بدت هذه الشخصية مثل قدر حتمي لهذه الشخوص، حتى حين حاولت الانعتاق من سطوته.
ويبدو من اليسير تشبيه هذه الشخصية بنبوءة إغريقية لا مفر من تحققها، حتى لو حاول الآخرون تجنبها، تماماً كما حدث مع أوديب الذي حاول تجنب نبوءته فحققها. وهو ما يحدث هنا أيضاً، حيث حاولت سندس تجنب الشيخ فلم تنجح، وحاول كل من عزمي الوجيه وخاله جبران ولم ينجحا. وإذا كان الروائي يحاول إبراز سطوة الشخصية الدينية، إلا أن هنالك ما هو أكثر عمقاً في هذه الشخصية وأثرها.
فالشخصيات الأخرى طالعة من الحي الضاربة جذوره في الثقافة الدينية، بحيث يظل ثمة خيط غير مرئي يشد الناس إلى جذورها. وهو ما يجعل القارئ لا يكتفي بعلاقات الشيخ الجنزير العليا فقط للاستدلال على مدى نفوذه.
وإذا كان الروائي يرصد التحولات في المجتمع الأردني، فإن ثمة بناء فنياً قوياً تم إنشاؤه وحبكه في عناية، جعلت من بعض الشخوص نماذج فنية متفوقة، مثل سندس، المرأة التي تتجاذبها قوى عدة، وهواجس وانفعالات ذاتية متنوعة، تجعلها قادرة على المضي قدماً في تحقيق رغباتها، بغض الطرف عن النتائج التي لا تفكر فيها أصلاً. وإذا كان الشيخ عبد الحميد الجنزير يمثل حجر الزاوية في هذه الرواية، فإن سندس تمثل واحداً من مفاتيح الشيخ نفسه، بل ومن مفاتيح الرواية كلها، بالنظر إلى ما تتمتع به من قوة فنية مؤثرة.
ولا يمكن المرور على هذه الشخصية من دون أن تذكُّر «إيما بوفاري» منذ اللحظة الأولى. فكلتاهما -سندس وإيما- طالعتان من أصول شعبية، ولديهما ذلك النزوع الغريب لتحقيق ما تفكران فيه وما تصبوان إليه. وقد ارتكبت كلتاهما من الحماقات ما يثير الرعب أحياناً، خصوصاً سندس التي لا تتورع عن إغواء ابن زوجها. وقد فاقت في ذلك ما قامت به إيما بوفاري. والفارق بينهما أن سندس بدت وكأنها تحب «عزمي الوجيه» ابن زوجها، ولم تقم علاقات غير شرعية مع سواه. لكنها في حبها ذاك، كانت تبحث عن ذاتها التي لم يتمكن زوجها من توفيرها لها، وإن تبدّى ذلك في الرغبة الجنسية.
لكن ما تمكن ملاحظته أيضاً في الرواية، هو عدم الحياد اللازم للمؤلف. وعدم الحياد هذا لا يظهر في موقف الكاتب المعلن أو انحيازه إلى فكرة أو جهة دون أخرى. لكنه يتعين في إبراز جانب واحد من وجه الظاهرة الإسلامية، الأمر الذي جعل شخوصه الدينية كلها على مقدار واحد من الانتهازية والتلاعب بالدين وتوظيفه لأجل تحقيق غايات خاصة.
وعدم الحياد هذا، أو الانحياز الفكري والسياسي في الرواية، هو الذي شكّل ضربة موجعة للرواية. حيث غابت التناقضات الأساسية بين الشخوص جميعها، فبدت كلها شخصيات انتهازية وصولية، وإن اختلفت في ما بينها في الأساليب والقدرات الذاتية. أي أن ثمة تعميماً هنا أفقد النفَس الدرامي قوته وأثره. وقد انعكس هذا أيضاً على الشخوص الأخرى خارج الدائرة الدينية، بحيث بدت الرواية إدانة للقوى السياسية والثقافية والاجتماعية الأردنية في العقدين الأخيرين، من دون أي مقابل أو معاكس. أي أن الرواية اتخذت لنفسها بعداً واحداً، تمثل في إدانة التجربة الإسلامية أولاً، والتجارب السياسية الأخرى التي أصبح همها المشاركة في السلطة السياسية القائمة، بعد اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة.
وإذا كان ثمة في الواقع الموضوعي ما يؤكد ذلك أو يعززه، فإن حركة التاريخ ليست كذلك أبداً، ومن مهمات الكاتب أن يغوص إلى أعماق الواقع، ويقرأ حركاته الباطنية التي لا تتوقف، لا أن يكتفي بالسطوح المعلنة. بل يمكن القول أيضاً إن التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية الأردنية، تحمل في طياتها إرهاصات جديدة غير صارخة، تشي بتبدل النخب الثقافية والسياسية التي طفت على سطح الواقع الأردني طوال عقود، وإن كانت ظاهرة الإسلام السياسي هي الأبرز في الوقت الراهن.
كما أن المؤلف لم ينتبه خلال إدانته الإسلام السياسي، إلى بروز حركات المقاومة الإسلامية في هذه المرحلة. وهو يعلم أن هنالك فرقاً بين المقاومة والمشروع السياسي.
|