أضواء على تيارات المعارضة في إسرائيل الحلقة(1)
* هل للمعارضة الإسرائيلية قيمة ؟ وكيف يجب قياسها ؟
* أربعة تيارات للمعارضة تتوزع اليمين والوسط واليسار.
* أدت حرب حزيران إلى سلسلة من الانفصام والاندماج في الأحزاب الإسرائيلية.
* "حركة اسرائيل الكبرى" نشأتها وفكرها ومستقبلها .
تحفظات:
أية دراسة لتيارات المعارضة الإسرائيلية،لا تنطلق من نقطة تحليل واضحة تشكل قاعدة البحث وقاعدة التقييم ستؤدي إلى سلسلة من التناقضات تجعل مثل تلك الدراسة معرضة للسقوط في عشرات الأفخاخ المنصوبة أمامها . وإذا كان صحيحاً أن الحاجة الأولى الآن هي حاجة تقتصر على "عرض صورة" موضوعية لواقع تلك التيارات المعارضة داخل إسرائيل،فإن مثل تلك العرض يفقد قيمته أن هو لم يحدث من خلال موقف فكري،وبواسطة أدوات تحليل موضوعية وملتزمة. ولذلك فإن الحديث عن القوى السياسية المعارضة في إسرائيل حديث يجب أن يحاط بسلسلة من التحفظات،وأيضاً بالتشديد على سلسلة من المبادئ والقواعد المركزية التي يجب أن تظل أساساً تجري وفقه عملية تقييم تلك القوى المعارضة.
* أولى هذه القواعد أن الموقف العربي من المسألة الإسرائيلية برمتها بات مرتبطاً بصورة يستحيل فصمها بمبدأ الكفاح الثوري المسلح طريقاً وحيداً لتقويض البنيان الامبريالي والعنصري و الاغتصابي لإسرائيل ولذلك فإن أي قياس عربي للجدوى التاريخية لأية قوة إسرائيلية معارضة سيكون ملزماً دائماً بمدى اقتراب أو ابتعاد تلك القوة عن خدمة تلك المبدأ الجوهري .
* وثاني هذه القواعد أن القوى السياسية المعارضة في إسرائيل ليست،ولن يكون بوسعها،أن تحسم مسألة الصراع العربي الإسرائيلي سواء من جهة اليسار أم من جهة اليمين،ولكن ذلك لا يفقدها قيمتها كحقائق راهنة تمثل قوى لها تأثيرها،على المدى المباشر أو على المدى البعيد،ولذلك فإن عملية إسقاطها من الحساب،أو وضعها في قدر واحد مع بعضهما ومع السلطة الحاكمة،هو عمل ليس من الحكمة في شيء،ولا يخدم بأي شكل مستقبل النزال المصيري القائم على التخطيط وحسن التصويب.
* وثالث هذه الحقائق أنه،في الوقت الراهن وإلى مدى لا يمكن رؤية طبيعة امتداده،لا مكان بالنسبة للعرب لفتح حوار مع هذه المعارضة الإسرائيلية،والشكل الوحيد المقبول الآن- بالنسبة للعرب - للمعارضة الإسرائيلية هو ذلك الشكل الذي يتجاوز رفض الصهيونية إيديولوجياً إلى رفضها جغرافياً أيضاً، فالتناقض الكامن بين رفض إسرائيل إيديولوجياً والتمسك بها جغرافياً،يطرح على الفور تناقضاً أساسياً مع حركة التحرير الفلسطينية .
* ورابع هذه الحقائق أن " كمية المناورة " التي تعطي المعارضة الإسرائيلية لنفسها حق ممارستها،تبلغ من الاتساع حداً يستلزم من العرب التسلح بكمية مضاعفة من الحذر والتحفظ،والاهتمام بصورة أكثر مدى التزام تلك المعارضة بمواقفها النظرية على صعيد الممارسة . ولكن هذه الحقائق مجتمعة يجب أن تساعد على رسم صورة موضوعية لما يمكن لهذه المعارضة أن تلعبه داخل إسرائيل،على هامش المعركة التي تخوضها الجماهير العربية تحت إعلام الكفاح المسلح وشعارات التحرير الحقيقي والكامل .
الوضع الحزبي في إسرائيل
لقد كانت الحدود الحاسمة بين معظم الأحزاب المعروفة في إسرائيل،وخصوصاً تلك التي تدين بالصهيونية أساساً،حدوداً غير واضحة أبداً،وهذا هو التفسير الأول لعمليات الاندماج والانشقاق والتحالفات المستمرة التي كانت تنشط قبل وأثناء المعارك الانتخابية. ففي كنيست 1949 و1951 دخل" الماباي" مع" أحدت هاعافودا" الانتخابات في قائمة واحدة . وفي كنيست 1961 اندمج"الصهيونيون العموميون"،"بالتقدميين"و" وشكلوا قائمة "الليبراليين" التي صارت حزباً فيما بعد،ما لبث أن تحالف مع "حيروت" ليشكلا كتلة"غاحال". وفي كنيست 1949 دخلت الأحزاب الدينية الثلاثة في حلف موحد تحت اسم"الجبهة الدينية المتحدة". وفي كنيست 1951 و955و95 انشق اثنان من هذه الأحزاب الدينية الثلاثة عن الجبهة الدينية المتحدة ،وشكلا "جبهة التوراة الدينية " . وفي كنيست 965 دخل حزب " رافي" الانتخابات،بعد انشقاقه عن "الماباي" في قائمة مستقلة،وعاد في 1968 واندمج "بالماباي" . وفي 1967 انشق ثلاثة نواب وصلوا إلى كنيست 1965 على قائمة "حيروت"،وشكلوا "حركة المركز الحر". وهذه النماذج على حركة المد والجزر،والاندماج والانفصام،بين هذه الأحزاب،هي دليل واحد فقط على غياب الحدود الحاسمة بين مواقف هذا القطاع من التشكيلات السياسية في إسرائيل،ولكن لعل أبرز أمثلة هذا الغياب ،هو موقف "المابام"،الذي بنى موقفه على معارضة ايديولوجية نظرية للحزب الحاكم،ولكنه لم يتردد في قبول الدخول إلى الوزارة التاريخية الحاسمة،ليشارك في صياغة انعطاف جذري في حياة إسرائيل نحو المزيد من العدوانية والتوسع،وليبارك الموقف الراهن لحزب الماباي،ويعلن تصريحات موازية في الفاشية والعدوانية .
4 تيارات أساسية بالمعارضة
هذه الحقيقة تقربنا أكثر نحو الدخول إلى صلب التيارات المعارضة،ويمكننا بعد استثناء الأحزاب التقليدية التي اشتركت علاني في اللعبة الإسرائيلية بشكل أو بآخر حصر هذه التيارات بأربعة تيارات :
* أولاً: التيارات المعارضة التي مضت إلى أقصى اليمين،والتي تعبر عنها ، مهما اختلفت التسميات،الحركة التي أطلقت على نفسها اسم:"حركة أرض إسرائيل".
* ثانياً: الحزب الشيوعي،أو بكلمة أدق:الحزبان الشيوعيان،اللذان جاءا نتيجة انشطار بين جماعة غالبيتها من الإسرائيليين،يتزعمهم سينينه، وميكنس،وبين جماعة غالبيتها من العرب يتزعمها أميل توما،وماير فلنر.
* ثالثاً : التيارات اليسارية،التي هي أقرب إلى التجمعات الصغيرة منها على الأحزاب،والتي هي بشكل ما انعكاس لتيارات اليسار الجديد،في أوروبا، وتمثلها مجموعة "ماتس بن" (البوصلة)، ومنها"الهيئة المناهضة للضم"، ومجموعات صغيرة أخرى.
* رابعاً : ما يمكن تسميته بالموقف الحزبي،أو التنظيمي،لعرب الأرض المحتلة،وهو يستحق بنداً خاصاً من البحث بالرغم من أنه يعبر عن نفسه تارة بالالتحاق بالحزب الشيوعي،وتارة أخرى بمحاولات محدودة،وجزئية،لتشكيل حركة ذات إطار قومي عربي مستقل عن كل ما هو إسرائيلي،مثل حركة الأرض،أو الجبهة الشعبية.
الوضع الحزبي بعد 5 حزيران
لقد أتت حرب حزيران،في الجهة الإسرائيلية،إلى هزة يمكن تصنيفها تحت البند الذي يمكن أن نصنف تحته،في الجهة العربية،الهزة المماثلة،والتي ألقت أضواء ،وأحدثت اكتشافات ،كانت على حد بعيد اكتشافات مفاجئة. فقد جعل الانتصار الإسرائيلي كثيراً من التيارات الإسرائيلية المترددة،تختار اتجاهها النهائي،أو على الأقل الأكثر وضوحاً،فالخامس من حزيران لم يؤد فقد إلى خلق جو من النشوة في إسرائيل،ولكنه أيضاً دفع مراكز القوة السياسية،التي متعت نفسها بحق المناورة طيلة السنوات الماضية،لأن تكشف عن نفسها،وتعلن انتساباتها الحقيقية. فالخامس من حزيران هدم كثيراً من الأسوار التي كانت تفصل بين الأحزاب الإسرائيلية،وبعد العدوان بسبعة شهور فقط لم يجد الماباي مبرراً ليظل على خلاف مع رافي ،فعادا للاتحاد في 21 كانون الثاني 1968، وشكلا مع أحدوت هاعافودا حزباً واحداً،وعشية العدوان لم يجد المابام أي مبرر لخلافه التقليدي مع الماباي،فقبل بالمشاركة بالحكم،ومضى في هذا شوطاً أبعد فتخلى عن حساسيته التي التزم بها بهدف كسب الأصوات العربية،ومضى يجهر بمطامعه التوسعية ومواقفه المناهضة لعرب الأراضي المحتلة والدول العربية على السواء،وفيما بعد،لم يتردد يوسف سابير،وزير الدولة الإسرائيلي عن حزب الأحرار،من أن يقول في مؤتمر صحفي عقده في أوساط كانون الأول 968،من أنه لا يجد،بعد حرب حزيران،أي سبب لاستمرار الخلاف الذي نشب عام 1965 مع حزب حيروت بسبب حدود دولة إسرائيل،وكذلك لم يجد أشكول مبرراً لعدم تعاون الماباي مع حزب حيروت اليميني التوسعي والمتطرف فأشرك مناحيم بيغن بالمؤازرة،بل أن يبغال آلون،لم يجد ما يمنعه كعنصر رئيسي في حزب الماباي ونائب رئيس الوزراء من أن يستقبل وفداً عن " حركة إسرائيل الكبرى"،الأكثر تطرفاً من الجميع،ويعرب لها في ذلك اللقاء الذي تكرر أكثر من مرة،عن وده وتفهمه لمراميها. وفي الوقت الذي أدت هزة الانتصار الإسرائيلي على تهديم تلك الحواجز بين الأحزاب،وأوجدت الفرصة للكشف عن حقيقة الأرض المشتركة فيما بينها والتي كانت تختفي تحت ركام المناورات الانتخابية والإعلامية،حدثت أمور أخرى لا تقل أهمية .
* فمن جهة أولى رأت تيارات كامنة في الانتصار الإسرائيلي في الخامس من حزيران فرصة ذهبية لتبني حقيقة النوايا التوسعية الإسرائيلية التي كان الصهاينة يحرصون دائماً على تغليفها بشيء من التضليل،وهكذا انطلقوا يبشرون بها علناً كشعار لحركة أسموها "إسرائيل الكبرى"،لا تتردد في المجاهرة بأن الحدود التي وصل إليها الغزو الإسرائيلي في حزيران 1967 هي حلقة واحدة في خطة تعتمد بالتخطيط إلى توسع إضافي بالمستقبل.
* ومن جهة أخرى رأت تيارات إسرائيلية معاكسة،إن حرب حزيران والانتصار الإسرائيلي الذي حملته،لم يضع حداً للمشكلة ،ولم يضمن شيئاً لأمن إسرائيل،وأن الحلقة المفرغة التي دخلها العنف الإسرائيلي لا مخرج منها إلا بوقفة تنظر إلى الأمر بمجمله نظرة جديدة،وتقدم تحليلاً عصرياً يمكن أن يكسر هذه الحلقة المفرغة. وبالطبع فقد قاد اليسار هذه التيارات،وانبثقت عنها تجمعات صغيرة مختلفة ومتداخلة ومتعاونة في قليل أو كثير مع الحزب الشيوعي في إسرائيل،ويحاول الاتصال دائماً بعرب إسرائيل،على أساس أنهم الجهة المعنية أكثر ببرامجها. وهذا كله يوصل إلى حقيقة هامة ،وهي أن التيارات المعارضة في إسرائيل،سواء تلك التي مضت إلى أقصى اليمين أو تلك التي اختارت اليسار،فقد سجلت بياناً مختلفاً لصورة المعارضة داخل إسرائيل عن ذلك البيان الذي كان لصورتها قبل الخامس من حزيران. إن الملاحظة الثانية في هذا النطاق يمكن تلخيصها بمايلي:ليست المعارضة اليمينية في إسرائيل،في الحقيقة،إلا الخطوة الثانية للحكومة الإسرائيلية،ومن هذه الناحية فإن تسميتها بالمعارضة بالنسبة للحكومة الإسرائيلية تسمية محاطة بالتحفظات . وكذلك فإن المعارضة اليسارية في إسرائيل،بالنسبة للعرب في فلسطين المحتلة،تشكل بدورها الخطوة قبل التالية نحو حقيقة مطالبهم،هذه المطالب التي لا يتاح لهم حتى الآن فرصة التعبير عنها بالصورة التي يتوقون لها . ومن هذه الناحية فإن تسمية هذه المعارضة باليسارية ،بالنسبة لعرب فلسطين المحتلة،تسمية محاطة بهذا التحفظ أيضاً . بكلمات أخرى :إن اليمين الإسرائيلي المعارض هو احتياطي السلطة،بينما اليسار اليهودي المعارض هو احتياطي عرب فلسطين المحتلة، في نطاق النشاط السياسي العلني .
حركة إسرائيل الكبرى
لقد تبلورت"حركة إسرائيل الكبرى" بعد حرب حزيران،واستقطبت على جناح السرعة،ووسط جو النشوة بالانتصار،قطاعات شاسعة من اليمين الإسرائيلي ،ومن كل التيارات التي اعتبرت التوسع والتعصب الديني وجهي العملة الصهيونية الحقيقيين. والاسم الرسمي لهذه الحركة هو " حركة أرض إسرائيل"،ويبدو أنها حتى الآن لم تأخذ طابع الحزب،ولكنها تقبل أن تضم في صفوف مناصريها عناصر من مختلف لأحزاب الإسرائيلية. وترى هذه الحركة أن حدود أرض إسرائيل هي تلك التي حددتها مذكرة الحركة الصهيونية إلى مؤتمر السلام في 1919،وهي تحدد الحدود الشمالية بنهر الليطاني في لبنان، وجبل حرمون،والحدود الشرقية بالخط الحديدي الحجازي،أما في الجنوب فإن معظم صحراء سيناء قد اعتبرت آنذاك ملحقة بأرض إسرائيل. وتقول الحركة أن أرض إسرائيل،تاريخياً ،تتضمن أجزاء من الأراضي التي هي الآن أرض سورية،أو لبنانية،وكل صحراء سيناء التي تعلن هذه الحركة أنه"ليست جزءاً تاريخياً من مصر". ومن مبادئ هذه الحركة أن"المستعمرات اليهودية لم تنقطع عن الوجود في فلسطين منذ 3500 سنة" وأن الـ 13 قرناً الماضية"لم تشهد أي شعب آخر ،طور هذه الأرض أو ادعى أنها وطنه" وأن"ادعاء العرب بأن فلسطين وطنهم لم يحدث إلا في أعقاب الحرب العالمية الأولى" وأن"حق اليهود في فلسطين هو حق نهائي". وعلى ضوء هذا الإيجار الكافي لمبادئ الحركة،نطالب هذه الحركة بعدم الانسحاب من الأراضي المحتلة بأي ثمن،وإلا تقبل إسرائيل أية مفاوضات مع العرب إلا باعتبار حدود حزيران 1967 هي حدود إسرائيل وأن اللاجئين الفلسطينيين لابد أن يجري إسكانهم في الدول العربية .(*) لقد وضعت هذه الحركة ،على ضوء هذه المبادئ ،الخطوط العريضة لبرامج تتعلق بمعالجة مشاكل التزايد السكاني لدى الأقلية العربية في إسرائيل،وتشجيع هجرة اليهود إلى إسرائيل،وهي تنشر أجزاء من هذه البرامج في إعلانات كبيرة في معظم الصحف الإسرائيلية على شكل أسئلة وأجوبة. وقد عقدت جماعة"إسرائيل الكبرى" مؤتمرها الأول في القدس العربية المحتلة يوم 5 حزيران 1968،بمناسبة مرور عام على احتلالها،وكانت أبرز قرارات ذلك المؤتمر مناشدة الحكومة الإسرائيلية رفض قرار مجلس الأمن رفضاً قاطعاً،واعتبار خطوط وقف إطلاق النار حدوداً ثابتة،وتنظيم استيطان اليهود في المناطق المحتلة التي تسميها الحركة"المناطق الجديدة" . وحضر المؤتمر المذكور أربعمائة مندوب،على رأسهم أرملة بن زفي،رئيس الجمهورية السابق،وممثلين عن حزب العمل الموحد الحاكم(مردخاي سوركيس،وأمنون لي) وعدد من ابرز الكتاب الإسرائيليين مثل موشيه شمير،ويهودا بورلا،وحاييم هزاز. وحث حزب حيروت بتحية للمؤتمر أعرب فيها عن تضامنه مع أهدافه،وبارك الحاخام الأكبر نسيم أعمال المؤتمر. ومن أبرز زعماء هذه الحركة شخص يدعى"أيسر هرائيل"،وكان في السابق يشغل منصب رئيس الـ"شين بت" أي المباحث الإسرائيلية العامة. وقد حددت نشرة الحركة"هاخزيت" أي"الجبهة"،الخطوط البارزة لفكرها،في عددها 13،وهي النشرة الناطقة بلسان حركة إسرائيل،بهذا المقطع الواضح: "يكثرون في القول:أليس هدفنا هو السلام؟هذه صيغة كاذبة،ما جئنا إلى هنا من أجل السلام،وكل ما نفعله هنا ليس من أجل السلام،وإنما من أجل خلاص شعب إسرائيل وأرض إسرائيل(هذه الجملة هي شعار الحركة الصهيونية) إن فكرة السلام ليست هامة تجاه الفكرة المركزية التي جئنا من أجلها إلى هنا،ومن أجلها سفكنا الدماء،دماءنا ودماء الآخرين،وسنضطر بالطبع إلى سفك المزيد من الدماء كان ثمة خياليون حاولوا إخراج سفك الدماء من طريق الصهيونية،ولكن الواقع أثبت ان أقوالهم كخيوط العنكبوت،ومن يشترط خلاص إسرائيل بطرق السلام معاد للأخلاق،لأنه ليس هناك أكثر من تخليص شعب في أرضه،التي هي أرضه الوحيدة بينما للعرب هنا وللعرب في بلاد الشرق الأوسط،دول وبلدان عديدة وغنية،إن هدفنا هو:عودة صهيون،لا السلام"(*) . وفيما بعد سيكتب أحد كبار مفكري هذه الحركة،هو الدكتور"الداد شيب" مقالاً في "هاخزيت" يقول فيه حرفياً: " لا توجد وحدة قومية فلسطينية،فاليهود من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة،غير الموجودين هنا،هم هنا أكثر من العرب الموجودين هنا..العرب ليسوا هنا من ناحية الماضي ومن ناحية المستقبل،أنهم مؤقتون هنا،وفي شرق الأردن أيضاً،بعد عشرين سنة أخرى،سيرحلون بالقوة أو من تلقاء أنفسهم،فكما أنه سيبقى قليل من اليهود في العالم،كذلك لا يبقى إلا القليل من العرب هنا،وهذا هو كل شيء . سيرحلون،ولقد قرروا في أعماق أنفسهم أن هذه البلاد ليست بلادهم،إن عرب إسرائيل يدركون من أعماق أنفسهم أن التاريخ قال كلمته: أرض إسرائيل ستكون كلها أرض إسماعيل.ولكن ذلك لا يكفي . يجب أن نساعد التاريخ والعناية الإلهية ،وستكون المساعدة وفقاً للظروف والساعة.لن نطلب دائماً دير ياسين(واليوم لا يوجد هنالك من لا يبارك دير ياسين لأنها ساعدت العرب على اتخاذ قرارهم بالرحيل. يجب أن نمنع عنهم مصير اللاجئين عن طريق مساعدتهم على أن يكونوا مهاجرين.إن من يدعو إلى هجرة اليهود من المهاجر،بجماهيرهم،من حقه ومن المحتم عليه أن يدعو إلى رحيل العرب،بجماهيرهم ،عن أرض إسرائيل.هذا هو عن أرض إسرائيل.هذا هو أشد الحلول إنسانية لليهود والعرب.." (**) . وفي سبيل تعزيز آراء من هذا النوع،واستنتاجات على هذه الشاكلة،أعادت الحركة المذكورة كتابة التاريخ وفق هواها،ومن خلال منطق يتميز بالتفاهة،ولا يصمد أمام أي امتحان فكري أو تاريخي أو منطقي يتمتع بالشيء اليسير من الجدية،فعلى سبيل المثال تعتبر الحركة هذه في فلسفتها إن سبب عدم كون سيناء وطن مصري هو أن سيناء كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية حتى عام 1840 " وتعتبر هذه الحجة كافية لإسقاط حق مصر بها،وكذلك فهي تقيس فترات الاستعمار الأجنبي للشرق الأوسط كفترات تلغي حق العرب في الحديث عن دول مستقلة،ولكنها لا يبدو أنها تشعر بأي تناقض حين تعتبر أن وجود عدة مئات من اليهود في فلسطين،تحت سلطات حكومات مختلفة على مر التاريخ،برهاناً كافياً على حق اليهود في فلسطين. أي أنها تلجأ إلى الخدعة الصهيونية التقليدية والمبتذلة التي ترى في الشرق الأوسط تاريخ المستعمرين فقط،وليس تاريخ الشعوب،ولكنها لا ترى في وجود اليهود في الشرق الأوسط إلا تاريخ اليهود أنفسهم،ووحدهم . لقد جمعت هذه الحركة،بعد الخامس من حزيران،مبادئ حزب حيروت التوسعية والعنصرية مع مبادئ المتدنيين القوميين،وطبخت هذه المبادئ معاً في نار السلطة الحاكمة وإنجازاتها الاحتلالية.ولذلك فقد أنشأت مركز استقطاب يميني وتوسعي وعنصري،يتوقع له الكثيرون أن يتبلور في المستقبل كتيار قد يصل إلى صيغة التنظيم الحزبي وبالتالي القوة السياسية الفاعلة ،ويجتذب في إطاره تيارات النازية الجديدة ،والشوفينية العنصرية . إن هذه الحركة من حيث الشكل،تقف إلى يمين القوة السياسية الحاكمة في إسرائيل،وتشكل في الوقت الراهن أداة ضغط يستخدمها أطراف الصراع في الحكم الإسرائيلي لمحاربة المعتدلين من جهة،ولإبراز ورقة مساومة من جهة أخرى في نطاق الصراع الداخلي بين القوى السياسية المختلفة في إسرائيل،ولكن هذا الاستخدام التكتيكي لهذه الحركة،لا يقف عند هذه الحدود،وهي تحمل في ذاتها بلا ريب قيمته الإستراتيجية الخاصة،وتشكل أحد احتمالات المستقبل بالنسبة للوجه السياسي والعسكري لإسرائيل،والذي لا يخفي الكثيرون داخل إسرائيل اعتقادهم بأنها تمثل جوهرياً مستقبل الصهيونية وأحزابها الحاكمة .
المراجع :
(* ) مبادئ الحركة في إعلان ظهر على ص 6 + 7 من "الجيروزاليم بوست ويكلي" 2 كانون الأول 1968 .
(*) من مقال لاميل توما - الاتحاد 14/6/1968 .
(**) عن الاتحاد - حيفا- 20/12/1968 .
مجلة الهدف/العدد الثاني/2/آب/1969 عدد القراءات 253
2010-08-13
أضواء على تيارات المعارضة في إسرائيل الحلقة (2)
الشيوعيون في اسرئيل
في الحلقة الأولى من هذه الدراسة التي تقدمها "الهدف" عن تيارات المعارضة في إسرائيل،تتطرق البحث إلى الأسلوب الذي يجب أن يجري وفقه تحليل تلك التيارات والتحفظات التي يجب تسجيلها خلال ذلك التحليل،كما تحدث عن حركة الانشقاق والاندماج التي شهدتها الأحزاب الإسرائيلية خلال السنوات الماضية ،وانتهى بالحديث عن المعارضة في أقصى اليمين،وهي التي تتمثل "بحركة إسرائيل الكبرى"،وفيما يلي يتطرق البحث للحديث عن الشيوعيين في إسرائيل. في عام 1965 انشق الحزب الشيوعي الإسرائيلي إلى معسكرين ،ويمكن بالتبسيط ،أن تحلل ذلك الانشقاق كمايلي:لقد استطاع الحزب،منذ إعلانه رسمياً عام 1948 ،أن يتجنب،بسبب من وجود عناصر عربية كثيرة فيه،الإجابة على أسئلة عديدة تتعلق بوجود إسرائيل،وإطار ما يسمى بحقوقها. إلا أن الأعضاء اليهود في الحزب شعروا بصورة متزايدة أن عدم جهرهم "بحق إسرائيل في البقاء"،والمضي بهذا الجهر إلى أبعد الحدود،يحرمهم من التوسع في جمهور اليهود،وحين طرح هذا الموضوع في مؤتمر عام لقادة الحزب،رأي الأعضاء العرب أن إعلان الحزب لموقف من هذا النوع،سيؤدي إلى الحد من توسع الحزب في الجمهور العربي. وبالطبع،حمل الخلاف وجهات نظر تتعلق بالمواقف المختلفة،وفي الواقع فإن تلك الفترة شهدت بروز حركة قومية عربية،وتيارات عروبية،في أوساط عرب فلسطين المحتلة،مما زاد في الضغط على الحزب الشيوعي،وعلى عناصره العربية بصورة خاصة . وانشق الحزب،بصورة عنيفة،إلى حزب شيوعي يهودي(يدعونه ماكي) وإلى حزب شيوعي غالبيته من العرب(يدعونه راكاح). وبرزاميل توما،وهو شيوعي قديم انتسب إلى الحزب منذ عام 1939 كعنصر مهم في الحزب الشيوعي العربي،يقف إلى جانبه عدد من العناصر البارزة الأخرى،مثل توفيق طوني،واميل حبيبي،وماير فلنر الذي يتزعم الحزب. وفي انتخابات للكنيست الأخيرة(1965) حاز الحزب الشيوعي العربي(راكاح) 26 ألف صوت،مما حمل له إلى المجلس 3 نواب،فيما حصل"ماكي"على شعبة تسعة آلاف صوت،حملت له نائباً واحداً إلى المجلس. ويصدر الحزب الشيوعي العربي صحيفة شبه يومية اسمها"الاتحاد" وصحيفة شهرية أدبية اسمها "الجديد" وقد استطاع عناصره العرب أن يبرزوا لدى التجمعات العربية في اسرائيل كقوى وطنية جريئة. وبالنسبة للقضية الفلسطينية،ولعرب فلسطين والاراضي العربية المحتلة،فان (راكاح)الحزب"العربي"،يتخذ مواقف أكثر جرأة و وضوحاً ويسارية مما يستطيع"ماكي" أن يفعل.
موقف ماكي
وللحزب الشيوعي"اليهودي" طريقة احتيالية في صياغة مواقفه ومنطقه،ومن السهل فهم أسباب ذلك،إن مطالعة مستمرة لصحف هذا الحزب تبرز اعتناق قيادته لمنطق يمكن تلخيصه على النحو التالي:إن الحزب يعتقد بأن المعطيات الصهيونية قد انتهت عملياً ،وإنها لا تشكل عنصراً مهماً في الصورة ولذلك فإن الحديث عنها وتحليلها غير مهم . وغير وارد أصلاً،فالهجرة اليهودية قد انتهت عملياً،وإن الإشكال الأساسي بالنسبة لوضع السلطة الحاكمة في اسرائيل،الآن،هو هذا الجيل القديم الذي ما زال يتحكم بالقيادة،وهم يرون مثلاً أن الجيل الجديد،الذي يمثله آلون وديان وغيرهما،لا يهتم بعالمية الصهيونية قدر ما يهتم باسرائيل لذاتها . إن هذا المنطق يشكل بلا ريب دورانا حول المشكلة،وذلك رغبة في عدم مواجهتها مباشرة لأن ذلك يفتح جبهة لا يريد"ماكي" أن يخوض غمارها . إن الحزب الشيوعي "العربي" في اسرائيل يرى أن "موقف هذه الجماعة(موشيه وشموئيل ميكونس) من الأحداث السياسية التي جرت خلال السنوات الثلاث الماضية،ولا سيما من حرب حزيران 1967، قد اثبت أن هذه الجماعة (( قد انقلبت إلى جماعة يهودية قومية )) [1] وقد لخص "ماكي" موقفه في مقال كتبه موشيه سينه أحد أبرز زعمائه،في عدد أول أيار من مجلة الحزب"قول ها عام" الصادر يوم 30/4/1968 حين قال:" إن المعركة ضد الرأسمال الأجنبي في اسرائيل لم تبدأ بعد بانتفاضة تستحق هذا الاسم،بسبب أن معركة أخرى تخيم عليها،وهي معركة الاستقلال القومي المنتصبة أمام تهديد القضاء على الدولة. معركة الدفاع عن حق البقاء أمام التهديد بإبادة اسرائيل،وتقف الطبقة العاملة في هذه المعركة للدفاع عن الوطن بقلبها ونفسها وكل طاقاتها،ومعها يقف حزبنا الشيوعي(راكي)". وقد برهن هذا الحزب على ما هو أكثر من ذلك،ففي الثامن من حزيران 1968 ألقى شموئيل ميكونس محاضرة في نادي المتدينيين القوميين في تل أبيب،ولا يلفت الوسط اليميني المتطرف الذي اختاره هذا الزعيم الشيوعي مكاناً لمحاضرته النظر،فقط،ولكن أيضاً عنوان المحاضرة الذي كان:(( أية معلومات أراد الروس أن يبتزوها مني عشية حرب الأيام الستة ؟)) ]2[ وفي محاضرة ألقاها شموئيل ميكونس في أيلول 1968،خلال مؤتمر عقده حزب ماكي،قال: (( لقد علقنا الآمال،وقدرنا بشكل إيجابي،توثيق العلاقات بين عدد من البلدان العربية والاتحاد السوفييتي ..لقد قدرنا،ويبدو أننا أخطأنا التقدير،بأن القدرة على ضبط البلدان الاشتراكية للشوفينينة العربية المعادية لاسرائيل ستكون أقوى من جميع محاولات الحكام العرب لنقل عدوى توجههم الشوفيني إلى العناصر الاشتراكية والديمقراطية)) [3] ويقول في محاضرته محللاً الموقف :(( ورغم كون التناقض بين الاستعمار ومنفذي أقواله في اسرائيل والدول العربية،وبين القوى المعادية للاستعمار في الدول العربية واسرائيل، هو التناقض الأساسي،فإنه في الظروف الراهنة يقفز إلى المكان الأول التناقض الثانوي ،وهو التناقض القائم بين القومية الاسرائيلية التي تتنكر لحقوق اللاجئين العرب،وبين القومية العربية التي تتنكر لحق اسرائيل في البقاء،وهو التناقض الذي يساعد الاستعمار،وينطوي على الخطر الذي يتهدد السلام )) [4] في هذا النطاق توجد ملاحظة مثيرة جديرة بالانتباه،فجماعة ميكونس جهرت عام 1965،حين كان الخلاف مع الشيوعيين العرب في اسرائيل في ذروته وقبل انشطار الحزب،إن أحد أطراف التناقض في الصورة هو (( التعصب القومي الاسرائيلي المتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني)) [5] بينما تضحي هذه الجملة،بعد ثلاث سنوات،"القومية الاسرائيلية،المتنكرة لحقوق اللاجئين العرب"،إن اختصار "حقوق شعب فلسطين العربي" في اصطلاح"اللاجئين"،ملاحظة لافتة للنظر. والصحيح أيضاً أن ذلك الاختصار والمسخ في المواقف انعكس على أمور أخرى مهمة جوهرياً من وجهة النظر الاشتراكية والمنطق الماركسي،فميكونس في مؤتمر الحزب يوم 30 ت 1 1968،يقول : ((عن حكومة أشكول حاولت في الواقع أن تغير إلى مدى ما في سياستها الخارجية،ولكنها لم تكن مثابرة في ذلك،وقد بدا هذا في عدة محاولات لتحسين العلاقات مع الاتحاد السوفيتي ودول اشتراكية أخرى..وقد أثارت (هذه المحاولات)غضب اليمين البرجوازي،ولم تنجح في الأساس..ولمدى معين..بسبب عدم الاستعداد لذلك من قبل الاتحاد السوفياتي الذي بنى أكثر فأكثر إمكانيات تأثيره في الشرق الأوسط على التمشي مع التوجيهات الشوفينية المعادية لاسرائيل لدى حكام الدول العربية)) ]**[ أنه من المذهل أكثر أن يصل هذا الحزب،الذي يرفع فوق رأسه رايات الماركسية والشعارات الشيوعية،إلى القول أن دول اسرائيل هي تجسيد للرابطة التاريخية التي كانت قائمة منذ 4000 سنة تقريباً،بين الشعب اليهودي كله وبجميع أجياله،وبين أرض اسرائيل]***[ ففي هذه العبارة رنة مألوفة شبيهة كثيراً بالعبارات التي سمعناها من"حركة اسرائيل الكبرى".
ماكي وحرب حزيران
والواقع أن هذه النغمة باتت تسمع بصورة مستمرة في تفكير وأقوال هذا الحزب (15/3/1968) لميكونس.وأعيد نشره في العدد الرابع الذي صدر في نيسان 1968 من "النشرة الإعلامية" التي تصدر عن اللجنة المركزية للحزب . الشيوعي الاسرائيلي(جماعة ميكونس) في تل أبيب،أعلن السكرتير العام للجنة المركزية لهذا الحزب:(( إن حرب الأيام الستة كانت حرب دفاع وطني..لقد أنقذ الانتصار الإسرائيلي وجود اسرائيل ذاتها،ووجود شعبها،هذه هي الحقيقة كلها...إن اسرائيل يجب ألا تطالب بالانسحاب لمجرد أنها ارتكبت خطيئة الانتصار في حرب الدفاعية)) (1* ( وفي قرارات المؤتمر الثالث والعشرين للجنة المركزية للحزب،في 10 نيسان 1968،أعادت هذه اللجنة تأكيد قرار المكتب السياسي للحزب الذي اتخذه في 24 آذار 968،والذي يعلن فيه عدم معارضته"لعمليات الجيش الإسرائيلي في الكرامة " (2**). وفي المؤتمر المذكور نفسه أدان الحزب نشاط الفدائيين،الذين وصفهم"بالمنظمات التخريبية العربية" وشن حملة شتم عنيفة على المقاومة الفلسطينية المسلحة" (3***) . وفيما بعد، نسبت" الاتحاد" [6]إلى ميكونس قوله،رداً على سؤال وجه له عن الموعد الذي سينضم فيه حزبه إلى الحركة الصهيونية،أنه"لا حاجة إلى ذلك الآن ما دام شعب إسرائيل متحداً في ساعة الضيق"! إن حزب ماكي،(أو جماعة شموئيل ميكونس،وموشيه سينيه)يوصف من قبل الجناح الذي انشق عنه،والذي نصطلح على تسميته بالحزب الشيوعي العربي،بأنه مرتد وتحريفي . والمعروف أن الاتحاد السوفيتي لا يعترف به ولا يقيم له كما يبدو،وزناً مهماً،ويمنح تأييده المعنوي للجناح الآخر الذي يقوده توما وفلنر،و لو لم يفعل ذلك منذ البدء،لأعطى الإسرائيليين فرصة للقضاء على أكبر تجمع سياسي عربي،نسبياً،بصورة قمعية لا يمكن تخيلها. ففي الواقع أن الكثيرين من المحللين السياسيين يرون في أن عدم إقدام إسرائيل على خطوة قمعية جذرية ضد الحزب الشيوعي العربي يعود إلى أن حكومتها لا تريد أن تنسف كل الجسور مع الاتحاد السوفياتي،بالإضافة لاعتبارات أخرى يقف في طليعتها الدعوى الإسرائيلية في حرية العمل الحزبي إذا ما خضع لقوانين الأحزاب.
مواقف راكاح
وبسبب هذا القانون حال الإسرائيليون دون تشكيل أي حزب عربي في فلسطين المحتلة،وسنتطرق لذلك حين نصل إلى الحديث عن الحركات السياسية العربية هناك. وهكذا فإن حزب"راكاح" يضم عدداً كبيراً من العرب،ومن الواضح أنه يولي الهموم العربية اليومية في فلسطين المحتلة،اهتماماً متزايداً،ويؤدي خدمات تكتيكية مهمة لهم،كما أنه لابد من الإشارة إلى أنه،بواسطة منشوراته العلنية،قد أرسى تياراً ثقافياً عربياً صلباً وبارزاً،كان من الصعب،لولا نشطه وتركيزه الدؤوب عليه،أن يصل إلى ما هو عليه الآن من حدة . إن المأخذ الأساسي،في أوساط عرب فلسطين المحتلة،على "راكاح" بأنه يتبع حرفياً وبارتباط نهائي خط موسكو،ويكرر مواقفها دون أي قدرة مهما كانت يسيرة،على الخروج شعرة واحدة عن ذلك الخط هذا يعني،أوتوماتيكياً،أن راكاح ليس ضد الكيان الإسرائيلي،ولكن مسألة حدود هذا الكيان بالنسبة له،هي مجال مناورة واسع النطاق،وإذا كان يتعمد في معظم منشوراته تجاهل الدخول في هذا الموضوع،فإنه أشار عدة مرات إلى حدود قرار التقسيم. إن "راكاح" قوة سياسية كبيرة،إذا ما نظرنا إليها من خلال خارطة القوى اليسارية المعارضة في اسرائيل،ورغم ذلك فإن منشوراته التي صدرت بعد الخامس من حزيران قد أبرزت بأن لديه شعوراً بضرورة وضع برنامج جديد . بوسعنا أن نقول أن حرب حزيران" فاجأت" "راكاح" بأن منطقه الدائم،الذي يعتبر الصهيونية توسعية بالطبيعة،واسرائيل أداة استعمار بالضرورة كان منطقاً صحيحاً تماماً .
راكاح وحرب حزيران
ومن الواضح أن"راكاح" وقف موقفاً ضد حرب حزيران منذ الأساس،ويوم انفجار الحرب بالذات قال ماير فلنر،في خطاب ألقاه في الكنيست يوم 5 حزيران :" إن الحرب لا تحل أية قضية مختلف عليها بين اسرائيل والدول العربية،إنها فقط تورط اسرائيل أكثر،وتسبب لها ضرراً لا يقدر". وقد استخدم "راكاح" عدوان 5 حزيران إلى أقصى مدى،كأسلوب للمعارضة أرسى من خلاله مواقفه،فهو يقف مع قرار مجلس الأمن،على الصورة التالية)) إن من يرغب فعلاً في إيقاف سفك الدماء،وبالتقدم نحو السلام،يتوجب عليه قبل كل شيء أن ينسحب من أرض ليست له(( (7) ولكنه يلحق هذا بموقف معلن بوضوح )) أن (الشيوعيين) دافعوا ويدافعون عن حق اسرائيل في القيام كدولة ذات سيادة،ويرفض كل اعتراض على حقها في الوجود)) (8) ورغم أنه كان من المتوقع أن تأتي مقررات المؤتمر السادس عشر للحزب الشيوعي العربي (راكاح) الذي عقد في اسرائيل في شباط الماضي خطوة حاسمة بصورة لافتة للنظر إلى الأمام،فإن ذلك لم يحدث عملياً،مع أن تلك المقررات احتوت على تأييد أكثر وضوحاً لمواقف الحزب السابقة،والتي جعلتها أحداث حزيران وما حدث في أعقابها تتقدم،نوعاً ما،خطوة أخرى نحو الوضوح والحسم . فقد أدانت مقررات المؤتمر حرب حزيران التي وصفتها بأنها "كانت استمراراً لسياسة الدول الاستعمارية (وعلى رأسها أميركا) وحكام اسرائيل تجاه الأنظمة المعادية للاستعمار في الدول العربية" وأنها" لم تكن حرباً عادلة للدفاع عن النفس أمام عدوان،بل كانت حرباً عدوانية مخططة جيداً منذ وقت طويل..لخدمة الاستعمار والتعاون معه" وأيضاً " للتوسع الإقليمي وتغطية الحقوق القومية المشروعة للشعب العربي الفلسطيني" وأن"مطامح(القومية) المزعومة للبرجوازية الاسرائيلية"اندمجت مع الأهداف الاستعمارية" في المنطقة. وتنتقد المقررات الموقف العربي من حرب حزيران كما يلي:"ومع هذا فقد كشفت الحرب عن الضعف السياسي والاجتماعي في مصر وسورية،فالتحولات الاجتماعية لم تكن عميقة بصورة كافية للتغلب على الضعف الذي خلفته أنظمة اجتماعية متأخرة ونظام استعماري طوال أجيال،والطبقة العاملة وجماهير الشعب لم يشركوا كما يجب في إدارة شؤون الدولة،وفي الجهاز العسكري وفي كل جهاز الدولة بقيت مناصب عليا في أيدي ممثلي الإقطاعيين والرأسماليين" ( " ).
موضوع حل الأزمة ؟
وتتوصل المقررات إلى القول بأن قاعدة الحل هي"قاعدة الاعتراف المتبادل بالحقوق القومية المشروعة لشعب اسرائيل العربي الفلسطيني" وأن" الطريق إلى السلام هو اعتراف اسرائيل بالحقوق القومية للشعب العربي الفلسطيني وقبل كل شيء بحق اللاجئين العرب في الاختيار بين العودة إلى وطنهم أو الحصول على تعويضات طبقاً لقرارات هيئة الأمم المتحدة..وعلى أساس حق تقرير المصير للشعوب". وتدعو المقررات إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن فوراً،وتؤكد أن عدم الانسحاب الاسرائيلي من الاراضي المحتلة هو الذي "يشكل العقبة الرئيسية أمام حل الأزمة". وتشير المقررات بالمقاومة التي تعتبرها حق الشعوب الطبيعي وتقول:"وأعمال الاضطهاد المتزايدة والمشتدة في المناطق المحتلة قد أدت في أعقابها إلى اشتداد واتساع المقاومة للاحتلال بكل صورها لوضع حد للاحتلال،وسياسة الحكومة في المناطق المحتلة قد فشلت فشلاً ذريعاً،وكل المحاولات لإخضاع السكان ولتحطيمهم،من ناحية سياسية وقومية ودوس كرامة الإنسان بينهم،وتيئيسهم وإرغامهم على التسليم بالاحتلال أو ترك أماكنهم بجماهيرهم- هذه المحاولات كلها فشلت،ومقاومة الاحتلال قد اتخذت أوسع مدى جماهيري وحظيت بعطف كبير متزايد في الرأي العام العالمي.والحق الطبيعي لكل شعب،احتلت أراضيه،أن يعارض الاحتلال،أن نضال الشعب في المناطق المحتلة من الأردن،ومصر،وسوريا،هو نضال سياسي في أساسه وجماهيري يعبر عنه بالإضرابات والمظاهرات،إن وسائل الاضطهاد الوحشي في المناطق المحتلة،كالأبعاد والاعتقالات بالجملة ونسف البيوت والتعذيب في السجون،وإطلاق النار على مظاهرات النساء والطالبات وخلق ظروف اقتصادية لا تطاق من أجل ترحيل السكان- كل ذلك لم يوقف،بل زاد في تعاظم المقاومة العادلة للاحتلال". ولكن هذه المقررات تتجنب الحديث عن"الكفاح المسلح" وسيلة مشروعة ومنطقية ولا بديل لها لوضع حد لذلك التواطؤ العنصري الشوفيني الامبريالي والرجعي الذي تحدثت عنه مطولاً،وذلك بالذات يترك ثغرة مهمة في المدى الممتد بين حركة المقاومة الفلسطينية،ومواقف "راكاح" .
الموقف من الوحدة العربية
إن كثيراً من المراقبين الدارسين يرون في الحزب الشيوعي الاسرائيلي(راكاح) إطاراً مثالياً،تمليه الظروف الراهنة،للنشاط السياسي لعرب الأرض المحتلة:فهو من جهة يؤمن الحد الأدنى من الحماية المطلوبة لهذا النشاط،وهو من جهة أخرى يلعب دوراً طليعياً بالنسبة لإبراز المشاكل المحلية التي يعاني منها عرب الأرض المحتلة،ويحمل بلا هوادة لواء النضال من أجلها. ولذلك بالذات فإن هؤلاء المراقبين يرون عدداً كبيراً من العرب المنتسبين إلى هذا الحزب ليسوا فعلاً من الشيوعيين الحقيقيين ،وإن الحزب يمثل بالنسبة لهم درجة أقل من مطالبهم السياسية الحقيقية التي لا سبيل إلى العمل في سبيلها إلا من خلال تنظيم سري. ومن هنا يجد المراقب ،في متابعته لما يكتبه ويعلنه أعضاء هذا الحزب،نوعاً من الانعدام في حدود حاسمة للمواقف، هذه الحدود التي تختلف من شخص إلى آخر ومن كاتب إلى آخر،ويبدو أن حق المناورة في هذا المجال يستخدم على أوسع نطاق. ولكن لعل ما هو مواز في إغراء العرب بالانضمام إلى هذا الحزب،إلى جانب مناهضته للحكم الإسرائيلي التي تتميز بالعنف وتبنيه للمعارك العربية المحلية هو رهانه المعلن على الوحدة العربية. فاميل توما الذي قدم مؤخراً رسالته لنيل شهادة الدكتوراه في موسكو،واختار أطروحته بعنوان"الوحدة العربية في تطورها التاريخي"،يعكس في الواقع تفكير الحزب حين يقول في دراسته هذه:((إن عمليات التاريخ طويلة ومعقدة ولا تفقد صلاحيتها إذا طال عليها الأمد أو إذا حلت به النكسات..لقد ارتبطت الوحدة العربية في مسيرتها الطويلة بمكافحة الامبريالية وتقرنها بالتحولات الاجتماعية العميقة،ولذلك تتعلق بها الشعوب العربية وتؤيدها القوى الثورية في العالم. ولم يغير هذه الحقيقة عدوان حكام اسرائيل المتشاوقين مع الامبريالية الأمريكية في 5 حزيران،واحتلالها إقليم عربية تعود إلى الأردن وسوريا والجمهورية العربية المتحدة..والنكسة العسكرية التي أصابت الدول العربية ...لم توطد مواقع الامبريالية في العالم العربي،بل أضعفتها،ولم تحطم التضامن العربي بل قوته.... ولا جدال في أن الامبريالية ستعقد الحركة الوحدوية بقدر طاقتها،وستكون إمبراطورية النفط أداتها الجوهرية،ولكن تقوية كفاح الامبريالية سيساعد الحركة الوحدوية،كما أن تقوية الحركة الوحدوية ستشدد مكافحة الامبريالية)) [9]
تنظيم انتهازي
إن ما يميز الحزب الشيوعي (راكاح) في فلسطين المحتلة ليس فقط قدرته الملفتة للنظر على إدراك أهمية اتخاذ مواقف من هذا النوع،ولكن أيضاً نشاطه الواسع النطاق وقدرته المتفوقة على استخدام حقوق المناورة وشجاعته على طرح القضايا. على أن كثير من العرب،بالإضافة لبعض اليساريين الإسرائيليين،يرون في الحزب الشيوعي(راكاح) نوعاً من"الانتهازية الذكية"،وعلى سبيل المثال فإن حركة"القوة الثالثة" في اسرئيل ترى"راكاح" على الصورة التالية: ((..وبينما يصرح زعماء الحزب الشيوعي الإسرائيلي أمام الجمهور العربي عن حق عرب اسرائيل في تقرير مصيرهم فإنهم لا ينفكون يتباهون أمام الجمهور اليهودي بالسلاح الذي حصلوا عليه من بلاد الكتلة الشرقية من أجل حكومة اسرائيل إبان الحرب العربية اليهودية سنة 1948،هذه الحرب يسميها الحزب الشيوعي الإسرائيلي حرب التحرير،(بالضبط) كما تسميها الأحزاب الصهيونية،وزعماء هذا الحزب يشرحون لرفقائهم العرب إن هذه الحرب كانت لتحرير البلاد من الانكليز)) [10] إن الشيوعيين العرب في اسرائيل يسمون ما تسميه"حركة القوة الثالثة" بالانتهازية،بأنه"تكيف مع الظروف لا يمكن النزول إلى ما هو أدنى منه"، ولكن الصحيح أيضاً هو أن اسرائيل ذاتها تنظر إلى الشيوعيين العرب نظرة شك،ومن الواضح أنها قانعة بشكل ما أن المواقف المعلنة لهذا الحزب،وعناصره،عرضة لحملة تحريض الصحف الإسرائيلية بصورة شبه يومية. وعلى أي حال فإن علامات الاستفهام المحيطة بهذه المسألة قد أدت،مع الزمن،إلى بروز حركات يسارية،عربية ويهودية،على هامش هذا الحزب،يمكن اعتبارها محاولات للوصول إلى أجوبة. في طليعة هذه الحركات حركة "الأرض" العربية.التي أنشأها نفر من الشبان العرب على رأسهم منصور كردوش وحبيب قهوجي وصالح برانسي وصبري جريس وغيرهم .
المراجع :
]1[ :" الاتحاد" - عوزي بورشتاين،2/8/1968
[2] :الاتحاد- 9/7/1968
:[3]الاتحاد 20/9/1968
[4]: المصدر ذاته
:[5] الاتحاد،نفس العدد،عن مجلة "زوهديرخ" الاسرائيلية الشيوعية الرسمية،العدد 5 ص 53 -1965
:[**]الاتحاد 6/9/968
]***[ :المصدر ذاته
(1): النشرة المذكورة - 23
(2**) النشرة المذكورة - ص 7
(3*** )النشرة المذكورة ص 6
[6] :الاتحاد (21/5/1968 )
(7) ،(8) :بيان اللجنة المركزية الذي قدمه سكرتير الشبيبة الشيوعية في الحزب بنيامين غونين(18-20/4/1968) ص3
( " ) المقاطع بين قوسين مأخوذة من نصوص مقررات المؤتمر السادس عشر للحزب الشيوعي في اسرائيل كما نشرت في "الاتحاد"(حيفا)- 4/3/1969 .
[9] : حركة القوة الثالثة - التاريخي" اميل توما(منشور - ص 41 ).
[10]:حركة القوة الثالثة "الى العرب المضهدين في اسرائيل".
مجلة الهدف/العدد الثالث/ 9/آب/1969 عدد القراءات 149
2010-08-24
أضواء على تيارات المعارضة في إسرائيل الحلقة(3)
حركة الأرض والمنظمة الاشتراكية الإسرائيلية
في الحلقتين التي نشرتهما "الهدف" من هذا البحث في تيارات المعارضة الإسرائيلية،جرى عرض للواقع الحزبي الإسرائيلي وحوافز الاندماج والانشقاق التي تتحكم به،ولواقعه بعد الهزة التي أحدثتها حرب حزيران،ثم انتقل الحديث إلى "حركة إسرائيل الكبرى" التي تمثل أقصى ما يمكن أن يسمى بالمعارضة اليمينية المتطرفة، وبعد ذلك جرى عرض لواقع الشيوعيين في إسرائيل وطبيعة المواقف التي يتخذها حزب"ماكي" من جهة،وحزب "راكاح" من جهة أخرى،في هذه الحلقة عرض لقوى المعارضة الأخرى . حركة الأرض،التي تكونت نظرياً عام 1961 ،كانت إفرازاً لتنظيم أخذ لنفسه اسم"الجبهة الشعبية" وتأسس عم 1958،وما زال قيد الوجود إلى الآن،بصورة من الصور. ولهذا كله تسلسل لا مفر من روايته: لأسباب عديدة ليس هنا مجال حصرها وتحليلها ،تأخرت عملياً ولادة تنظيم سياسي عربي على أساس قومي،بين عرب الأرض المحتلة،حتى بداية النصف الثاني من الخمسينات. في تلك الفترة قدمت مجموعة من العرب طلباً إلى الحكومة بالسماح لتنظيم سياسي اسمه"الجبهة العربية " بالعمل. ولكن إسرائيل ردت هذا الطلب بالرفض متسلحة بالقانون العثماني القديم الذي يمنع تشكيل أي تنظيم سياسي لا يفتح بابه أمام جميع "القوميات". وفي عام 1958 تقدمت هذه المجموعة العربية نفسها بطلب للسماح بتنظيم سياسي يحمل اسم"الجبهة الشعبية" وبالشروع في ممارسة نشاطه. ولما كان اسم التنظيم لا يشير إلى أنه مغلق أمام الفئات غير العربية،تسلمت السلطات الإسرائيلية الطلب،ولكنها لم تجب عليه بالرفض أو بالقبول،حتى الآن. وهذا يعني،على ضوء قانون عثماني آخر ومعروف،إن هذا التجمع يستطيع،بعد أن أعطى"العلم والخبر" ان يشرع في ممارسة نشاطه قبل أن يتلقى الجواب من السلطة،على أن السلطة تستطيع حين تشاء، طالما أنه لم تقل نعم،أن تقول لا. وذلك يشكل في الحقيقة صورة قانونية للقمع،وسيفاً مسلطاً على عنق التنظيم المعني. وكان في ذهن الذين انشئوا هذه "الجبهة الشعبية" أن تكون نوعاً من الأداة القومية للنضال على أساس جبهوي،تسمح لجميع الاجتهادات العربية أن تنضوي تحت لوائها للعمل على أساس قومي. ولكن الشيوعيين،الذين سارعوا إلى الانضمام للجبهة،ما لبثوا أن سيطروا عليها وجعلوها واجهة من واجهات نشاطهم،وهكذا عاد المؤسسون،الذين كانوا يضمرون تصوراً مخالفاً لطبيعة نشاط هذه الجبهة،فانسحبوا منها،وشكلوا عام 1961"حركة الأرض " . إن مبادئ هذه الحركة مسجلة بالتفصيل في المذكرة المطولة التي بعثت بها عام 1964 إلى يو ثانت،والتي نشرت بعد ذلك بثلاث سنوات في مجلة الأزمنة الحديثة التي يصدرها سارتر في باريس،وكانت قد نشرت لأول مرة،عام 1965،في مجلة "فلسطين" التي أصدرتها صحيفة المحرر في بيروت،آنذاك.
الأرض والقانون
ولكن حركة "الأرض"،التي أوضحت في مبادئها صفتها القومية،وكشفت بصورة غير مباشرة أو مباشرة أهدافها الحقيقية وتطلعاتها ومطامحها، لاقت مصير"الجبهة العربية" حين رفضت السلطات الاعتراف بها وإعطاءها أي ترخيص ،بالرغم من أن هذه الحركة،أعلنت ذات مرة في محاولة لكسب الشرعية إنها مؤيدة لحدود التقسيم عام 1947،فقد اتخذت السلطات من هذا الإعلان ذاته سبباً لرفض السماح لها بالعمل،على اعتبار أن هذا الشعار يهدف إلى هدم الكيان الحالي للدولة . ورغم ذلك فقد حاولت جماعة "الأرض" أن تدور وراء ظهر القانون،فكونت عام 1965 قائمة انتخابية باسم "القائمة الاشتراكية" التي تضمنت عشرة أسماء،وقدمت هذه القائمة إلى السلطات الإسرائيلية لتجيزها في معركة انتخابات الكنيست السادس،على أساس أن إجازتها تحولها،أوتوماتيكيا،إلى صيغة عمل تنظيمي وسياسي. ولكن الإجراء الفوري الذي اتخذته السلطات الإسرائيلية كان في إصدار قرار نفي يتناول أربعة من عناصر القائمة العشرة،فنفت منصور كردوش إلى عراد في النقب،وصبري جريس إلى صفد،وحبيب قهوجي إلى طبريا،وصالح برانسي إلى بيسان لمدة ثلاثة أشهر،وفي غضون هذه الأشهر رفضت السلطات الإسرائيلية السماح للقائمة بالدخول إلى المعركة الانتخابية بحجة أن خمسة من أسمائها العشرة،هم من أعضاء منظمة"الأرض" المحظورة. ورفع هؤلاء شكوى من محكمة العدل العليا التي ردت شكواهم في محاكمة استمرت عدة جلسات في تشرين الأول والثاني من 1965،وقرر الحاكم أن"الديمقراطية المقاتلة لا تفتح أبوابها للمخربين" وأنه أخذ على عاتقه القيام بمهمة تأمين"الديمقراطية المتمتعة بالدفاع الذاتي" بالرغم من أن قانون الانتخابات لا يجيز له ذلك(1) وفي الفترة الممتدة بين 1965،حين نفي زعماء "الأرض" ومنع السماح لحركتهم بالوجود،وبين الخامس من حزيران 1967 ،مرت هذه الحركة في فترة جمود.لقد ظلت بشكل ما موجودة،ولكنها لم تكن تمثل قوة سياسية فاعلة،وفي هذه الفترة تعرضت لسلسلة من التجاذب جعلت العديد من عناصرها يتركها ويلتحق بالحزب الشيوعي،لاعتبارات عديدة. وفي الواقع ، في حركة الأرض،في نظرة تعميم إجمالية،هي صورة للناصرية ذات طبيعة انفعالية،مشكلة نوعاً من الرد على تحديات مباشرة واجهت عرب فلسطين المحتلة. ولكنها كانت،في مضمونها،دون محتوى اجتماعي حاسم،ولذلك فإن قدرتها على الفعل كانت محدودة في جو ينافسها فيه الحزب الشيوعي من جهة ،وحزب السلطة الحاكمة من الجهة الأخرى. لقد أعطت" الأرض" الجواب القومي ولذلك لم تستطع أن تكون علنية، وافتقدت المضمون الاجتماعي ولذلك لم تستطع أن ترسي قواعدها بعمق وفعالية في أرض عرب فلسطين المحتلة. ولكنها ظلت تمثل صورة مثالية للنضال،ومثالاً لصفاء الموقف،المعبر في أصوله عن انتسابات عفوية وأصيلة لشعارات المعركة . إن النضال العربي في فلسطين المحتلة يحتوي،في كثير من جوانبه انعكاس، فانشق أوضاع النضالية العربية في الدول العربية،وهذا يفسر أن انشقاق"الجبهة الشعبية" التي كانت ثمار تحالف بين القوميين العرب والشيوعيين،قد حدثت في نفس الوقت الذي شهد الظاهرة القاسمية في العراق ،والتي أنتجت نوعاً من القطيعة بين الناصرية والشيوعية . وانعكست هذه القطيعة داخل إطار النضال الفلسطيني في فلسطين المحتلة،فانشق الناصريون عن الجبهة الشعبية التي كان الشيوعيون آنذاك قد استطاعوا السيطرة عليها، من خلال حلفهم مع الناصريين. وبعد الخامس من حزيران، دب نشاط مفاجئ في الجبهة الشعبية بعد أن بقيت على الرف طوال تلك السنوات تقريباً، ولم يكن ذلك إلا انعكاساً للجو السياسي العربي العام. وفي أواسط العام الماضي،عقدت الجبهة الشعبية اجتماعاً حاشداً في الناصرة اشتركت فيه جميع العناصر التي كانت تشكل قياداتها وقواعدها منذ البدء،ويبدو أن هذا الاجتماع لفت انتباه السلطات الإسرائيلية التي استدعت عدداً كبيراً من الأشخاص الذين اشتركوا فيه واستجوبتهم مطولاً لتعرف فيما إذا كان ذلك كله يعني أن حركة "الأرض" فقد عاودت نشاطها من خلال تسمية أخرى . وليس من اليسير الآن تقدير واقع ومستقبل قوة هذه الجبهة،ولكن الملاحظة الجديرة بالتسجيل،هي أن عناصر " حركة الأرض" قد اكتسبت خلال السنوات الفائتة رؤيا يسارية أضافتها إلى بعدها القومي،وبالتالي فأن احتمال وصول" الجبهة الشعبية" إلى نوع من الاتساق الإيديولوجي بين أطرافها هو احتمال وارد أكثر الآن .
القوى الجديدة واليسار الجديد
وعلى الجهة الأخرى ظلت سلسلة تجمعات من الحركات الإسرائيلية شبه اليسارية إن جاز الاصطلاح ذات عدد ونفوذ محدودين جداً ،وهذه التجمعات الصغيرة،التي تبرز باسم"القوة الثالثة" أو "القوة الجديدة"،أو "القوة السامية " أو "ماتس بن" تتشارك في الادعاء بأن سبب ضعفها الأساسي هو أنها لا تستطيع أن تخاطب الجمهور اليهودي كممثلة لوجهة نظر تلقى صدى في الأوساط العربية. إن بعض هذه التجمعات يجهر في القول بأنه أو استطاع أن يحصل على أيسر حد من الضوء الأخضر،من الجانب العربي،وحقق توسعاً مرموقاً في قطاعات كبيرة من الجمهور الإسرائيلي،الذي يرغب في أن يرى حركة إسرائيلية لها جسر ما مع وجهة النظر العربية . إن "حركة القوة الثالثة" التي أصدرت لفترة مجلة اسمها"المجلة الديمقراطية"هي في الغالب واحدة من أقدم هذه الحركات المعارضة،وفي الواقع فإن برنامجها الفكري يركز كثيراً على المشاكل الآنية،ويلتصق بالأشكال العريضة والعناوين الكبيرة للقضايا،بحيث ينتاب المرء شكوك حول حقيقة يساريتها . وهذه الحركة،التي يرقى تأسيسها إلى أواسط الخمسينات هي عبارة عن عدد محدود من المثقفين،وقد طرحت عام 1959 قائمة بأربعة مرشحين إلى الكنيست،ولا توجد أية دلائل على أنها توسعت أو انتشرت خلال السنوات الماضية،ولكنها كانت،ولا تزال،جهة تؤخذ في عين الاعتبار حين تمضي حركات المعارضة الأخرى في البحث عن حلفاء . في برنامج مرشحيها الأربعة للكنيست الرابع،تلخص هذه الحركة موقفها بمقدمة هي التالية : "إن تصويت أي عربي لحزب صهيوني هو عمل إجرامي..أنتم أيها العرب في حاجة إلى تصريح للتنقل في هذه البلاد التي هي وطنكم كأنكم مصابون بأمراض معدية..والأرض التي اغتصبت منكم لا تزال في أيدي مغتصبيها ..ومن المشكوك فيه أن توجد ح، ومن كثيرة في التاريخ لشعب ديس شرفه وحقوقه في وطنه كما يداس شرفكم وتداس حقوقكم في هذه البلاد(2)ويحمل بيان القوة الثالثة" مسؤولية هذه الأوضاع ليس فقط لحزب الماباي الحاكم،ولكن لمجموع الأحزاب الإسرائيلية بما في ذلك الحزب الشيوعي. ويخص البيان الحزب الشيوعي،ومن ورائه الاتحاد السوفيتي،بحملة شديدة بسبب مواقفهما الأصلية من قضية فلسطين،"وشعاراتهما السطحية" في حلها .
وتلخص الحركة هذه برنامجها كمايلي:
أ - إزالة الظلم الذي حل بعرب هذه البلاد(1- إرجاع اللاجئين وتعويض غير الراغبين بالعودة،2- إلغاء الحكم العسكري والتمييز المضاد للعرب،3- إرجاع الأملاك العربية لأصحابها ودفع تعويضات مناسبة مقابل استعمالها،4- حقوق كاملة للغة العربية5- مجلس ثقافي عربي منتخب يشرف على جميع الأمور الثقافية المتعلق بالعرب....10 - إبطال جميع القوانين التي وضعت صراحة أو خفية لنهب أملاك وحقوق العرب في إسرائيل."
وفي نطاق السياسة الخارجية:
1- السلام مع الدول العربية،عدم الانحياز،تأييد نضال شعوب آسيا وإفريقيا،تأييد نضال الشعب العربي في سبيل الاستقلال والاتحاد،إنشاء اتحاد فدرالي في الشرق الأوسط يركز في يديه الأمور الخارجية والدفاع والاقتصاد.
2- وفي النطاق الداخلي: حرية التعبير والاجتماع والتنظيم،فصل الدين عن الدولة،إلغاء الهستدروت الصهيوني،منع كل تمييز قومي أو ديني أو جنسي،إلغاء كل تمييز ضد أبناء الطوائف الشرقية." (3)
3- ومن الواضح من هذا البرنامج إنه لا يدخل في التفاصيل.فشعار "إحلال السلام مع الدول العربية" لا يعني شيئاً في الواقع.وهذا أحد الأسباب التي ربما أدت إلى عدم قدرة هذه الحركة على الانتشار في الأوساط اليهودية والأوساط العربية على السواء .
حركة القوة الجديدة
وتقف حركة "القوة الجديدة " والمعروفة أحياناً باسم حركة "هعولام هازه" ،والمعروفة أكثر باسم زعيمها وممثلها الأوحد في الكنيست"أوري افنيري" في مواقع قريبة نوعاً ما. ويتعاون افنيري،الذي اشتهرت عنه جرأته ومناهضته للصهيونية مع الشيوعيين،وهو من العناصر القليلة التي وقفت معهم في حزيران 1967 بشجب العدوان. ومن الممكن وصف حركة افنيري بأنها،بشكل ما"رومانطيكية" وقد كشفت عن جوهر مواقفها،بغض النظر عن النظريات السابقة المعلنة في أعقاب حرب حزيران،حين قدم أفنيري مشروعاً للسلام من 10 نقاط لبحثه في الكنيست في 10 شباط 1968 . ويتضمن البرنامج المطالبة باستفتاء عام بين سكان غزة والضفة الغربية لاختيار مستقبلهم،وذلك عن طريق التصويت بـ "لا" أو " نعم" من أجل إقامة دولة فلسطينية حرة ومستقلة،والتي تضم الضفة الغربية وغزة" وتكون "مرتبطة باتحاد فدرالي مع إسرائيل من الناحية السياسية والاقتصادية والعسكرية"،على أن "تكون القدس الموحدة جزءاً من إسرائيل والقدس القديمة عاصمة الاتحاد الفدرالي" ومع تشكيل هذه الحكومة تجري مفاوضات لحل جميع المشاكل المتعلقة بإسرائيل وفلسطين وتمكين تبادل مناطق عن طريق التفاوض"(4) ويشرح افنيري مشروعه،فيقول أن الاتحاد الفدرالي"يمنع دولتيه من ممارسة ارتباطاتها القومية،وذلك يعني بالنسبة له" عدم ممانعة إسرائيل في ارتباط شعب فلسطين مع الدول العربية وعدم ممانعة الفلسطينيين في ارتباط إسرائيل باليهودية العالمية"(5) وكي يحل مشكلة الحساسية التي سترافق تسمية الاتحاد الفدرالي هذا،إذ أن الإسرائيليين سيرفضون اسم فلسطين، والفلسطينيين سيرفضون اسم إسرائيل،فإن افنيري ليس بعيداً كثيراً من مواقع السلطة الحاكمة في إسرائيل،فما الذي يجعل تصنيفه مع المعارضة وارداً ؟ إن افنيري يعارض المحتوى الصهيوني لدولة إسرائيل،وهو يدين السلطة،بصورة متصلة،على طريقة سلوكها مع الأقلية العربية،ويشجب العقلية العسكرية التوسعية التي تحكم تصرفات الدولة،وكذلك فهو يعتنق بعض المبادئ اليسارية على صعيد المعالجة الداخلية للأوضاع. إلا أن هزة حزيران أعادت افنيري إلى الباب الخلفي للصهيونية،ولم يكن هذا التناقض إلا حصيلة اعتناق سطحي لليسار،وكذلك تحليل مرتجل لحقيقة الظاهرة الصهيونية ومن ثم الإسرائيلية .
المنظمة الاشتراكية
وإلى حد ما تحررت" المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية " من الفخ الذي أوقع افنيري نفسه فيه،وهذه المنظمة،المحدودة العدد والنفوذ،والتي ولدت بعد الخامس من حزيران تعرف باسم "ماتس بن" أي البوصلة،وأبرز عناصرها ومؤسسيها شخص يسمى موشيه ماخوير(7) الذي يعيش الآن في لندن ،ويرتبط بصداقة مع محرر صحيفة "إسرائيل امبيريال نيوز" المعارضة،والتي يصدرها اسرائيليلون في العاصمة البريطانية . والانطباع الأول أن هذه الحركة تمارس عملاً تنظيمياً مرتباً في خلايا ناشطة،ولكنها محدودة،وهي على حد بعيد نوع من الانعكاس للتيارات اليسارية الجديدة في أوروبا،ولذلك فإن نشاطها المتزايد هناك ليس وليد الصدفة. ترى"ماتس بن" إن الصراع في الشرق الأوسط ليس هو صراع قوميتين كما يحلو للإسرائيليين وصفه،وهو كذلك ليس صراعاً مع الاستعمار،كما يحلو للعرب روايته،ولكنه مزيج من هاتين المسألتين معاً:إنه صراع قومي نابع من حالة استعمارية.إن إسرائيل هي نتاج استعماري،وما زالت أداة للاستعمار،وطالما أنها كذلك لا يوجد أي حل إلا عن طريق قهر أحد عنصري الصراع نهائياً،الأمر الذي ترى "ماتس بن" أنه مستحيل عملياً . ولذلك فإن الحل،في رأي ماتس بن،هو النضال من خلال برنامج، وتصفيةلأمد لتحقيق سلسلة من الشعارات لا يمكن قبل تحقيقها إرساء أي حل. وفي طليعة هذه الشعارات العمل على تصفية الصهيونية كلياً،وتصفية نتائجها،الأمر الذي يعني مباشرة إعادة جميع النازحين إلى أرضيهم. عند هذا الحد،في تصور برنامج ماتس بن،يضحي طرح شعار حق الشعب في تقرير مصيره ممكناً،إذ يكون الشعب قد صار هناك ليقرر بنفسه. الخطو التالية هي دمج"الدولة العبرية" بالعالم العربي،هذا الدمج الذي سيضحي آنذاك ضرورة بالنسبة لهذه الدولة بسبب صغر حجمها،والخطوة اللاحقة هي وحدة العالم العربي كله،هذا العالم لا يوجد أمامه مصير غير الاتحاد ولم هذه الشظايا التي شطرها إلى قطع صغيرة منشار الاستعمار ومصالحه الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية . في عالم عربي موحد من الممكن لتجمع عبري أو كردي أن يأخذ زاويته الصغيرة،ولكن وحدة من هذا النوع لا يمكن قيامها إلا على أسس اشتراكية محضة . ولـ"ماتس بن" تحليل جريء بما يختص بقيام دولة إسرائيل،وهي ترى نتيجة لهذا التحليل إن "حكومة إسرائيل لا تستطيع أن تحقق السلام،لا بواسطة الصقور ولا بواسطة الحمائم"* وإن السلام في منطقة الشرق الأوسط"لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تجريد إسرائيل من الصهيونية،وتصفية النظام الصهيوني،وهذا يعني تخلي الإسرائيليين عن الاعتقاد بالأولوية المطلقة التي يعطونها لفكرة الاحتفاظ بدولة يهودية "* وترى أن الحل يكمن في "خلق دولة مزدوجة القومية،أو ببساطة أشد دولة واحدة،حيث يحرم فيها أي نوع من أنواع التمييز الديني أو العرقي،ولا يهم عندها لمن تكون الأكثرية،وهذا هو الإمكان الوحيد الذي يستطيع أن يلبي حاجات سلام وتقدم دائمين في المنطقة.* إن هذا الموقف هو نتاج طبيعي لخط معين في التحليل،وبالنسبة "لماتس بن" فإنها ربما تكون أول منظمة إسرائيلية تكشف،في جوهر التحليل،عناصر يصر الإسرائيليون على تجاهلها،فهي تنطلق من قناعته بأنه" منذ تأسيس أول مستعمرة صهيونية في فلسطين منذ 60 سنة،كان واضحاً للعرب واليهود على السواء أنه سوف لا يكون من الممكن التوصل إلى تسوية بين هدف الصهيونية ،الذي هو إقامة دولة يهودية،وبين وجود شعب عربي في فلسطين.وطالما أن المستعمرين اليهود في فلسطين كانوا قلة وضعفاء عسكرياً،فإن مهمة السيطرة العسكرية على شعب فلسطين كانت متروكة للمحتلين الانكليز،وكان هذا بالضبط ما فعلوه،وتتمثل ذروة هذه المرحلة في سحق الثورة العربية بين 1936و1939 هذه الثورة التي اضطرت بريطانيا في فترات معينة من تعبئة ثلث جيشها المستعمر "(*)
المواقف من الأحداث اليومية
وعلى أساس من التحليل الذي يمضي على هذا النهج،فإن ماخوير،الذي يمثل في العادة آراء"ماتس بن"،يرى أن جميع الاعتداءات الإسرائيلية على البلدان العربية،بما في ذلك عدوان 1956 وعدوان 1967،هي في جذورها جميعاً تعود إلى"يقظة الفلسطينيين العرب".وإزاء هذه المسألة بالتخصيص فإن"لماتس بن" مواقف لابد من الإشارة لها،على صعيد ردود الفعل المباشر للأحداث اليومية،والتي تشكل إلى حد بعيد،عند معالجة مسألة المعارضة الإسرائيلية،امتحاناً لما يجتازه هؤلاء المعارضون. وقد رأينا كيف سقطت أحزاب إسرائيلية معارضة،بعدد وافر،عند امتحانات تعرضت لها في مواقف مباشرة،"فالمابام" مثلاً سقط عام 1956 عند العدوان على مصر،في مناقضة مواقفه النظرية،وسقط نهائياً عام 1967 عندما قبل مختاراً "شركة الماباي في العدوان وفي الموقف بعده،وكذلك سقط حزب"ماكي" الشيوعي بعد 5 حزيران،وسقط أوري افنيري في اقتراحه الطريف عن دولة أورشليم،وقبل ذلك بعشرين سنة سقط حزب"أغودات اسرائيل"الذي كان عند تأسيسه في 1912 ضد فكرة دولة إسرائيل. ولذلك فإنه من المفيد قياس"ماتس بن"بالنسبة لردود فعله على صعيد الأحداث المباشرة.ومن هذه الناحية فهو يرى مثلاً أن:"العدوان على مطار بيروت في 28 كانون الأول 1967 كان نتيجة لنفس المنطلق الذي أدى إلى حرب حزيران 1967،لقد أدت الحرب التي فشلت في أضعاف المقاومة الفلسطينية إلى تقويتها،وهذا يشكل فشلاً للسياسة الإسرائيلية.إن الهجوم على طائرة العال أثينا،من قبل أعضاء في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كان صفعة لإسرائيل،ليس فقط لأنها ألقت الأضواء على مبلغ هشاشة خطوط اتصالاتها العالمية ،ولكن أيضاً لأنه عرض تصميم المقاومة الفلسطينية وجرأتها وشجاعتها.إن الرجلين اللذين قاما بالهجوم كانا يعرفان تماماً ماذا يتوجب عليهما أن يتوقعا،السجن الطويل،أو ربما الحكم بالإعدام.ومهما كان الحكم الأخير على العملية ذاتها،وعما إذا كانت مبررة عملياً وأخلاقياً ،فإن الرأي العام في داخل إسرائيل وخارجها،لا يستطيع إلا بصعوبة بالغة أن يتجنب التأثر بتصميم المقاومة الفلسطينية واستعدادها للتضحية.."(*) وبعد أن يشير ماخوير مباشرة إلى إن إسرائيل هدفت من عدوانها على مطار بيروت إبعاد الأنظار العالمية عن الخصم الفلسطيني،وتوجيهه نحو الدول العربية تمشياً مع مبدأ"داود يقاتل جوليات" يقرر طبيعة الأزمة باختصار ووضوح:"إن التصعيد العسكري الحالي في الشرق الأوسط (ترتد جذوره إلى الأخطاء التي ارتكبت بحق الفلسطينيين العرب،ولا يوجد أي احتمال طالما أنهم محرمون من حقوقهم القومية ولكن جوهر طبيعة الصهيونية هو معارضة أي طموح وطني للفلسطينيين العرب "(*) وبما أن"ماتس بن" تعتقد أن الحركة الوطنية الفلسطينية هي شيء طبيعي وحتمي ،فهي ترى أن تصادمها مع الحركة الصهيونية ولا يمكن حله إلا بإلغاء الصهيونية،ولكن هذا الإلغاء لا يمكن أن يحدث إلا على أساس يساري اشتراكي ،وهذا يستدعي بالضرورة أن تكون الحركة الوطنية الفلسطينية حركة يسارية بالطبيعة .
المراجع:
(1) الجيروزاليم بوست : 19 و21 تشرين أول و 14 تشرين الثاني 1965 .
(2) "إلى العرب المضطهدين ، لمدةرائيل" - القوة الثالثة(ص3)
(3) المصدر السابق ص 12و13
(4) "هذا العالم" تموز 1967
(5) "هذا العالم" أيلول 1967
(6) المصدر السابق .
(7) يعيش الآن في بريطانيا،لمدة عامين بدءاً في أكتوبر 1968،كمحاضر في جامعة لندن بموضوع فلسفة العلم.
(8) وكان في السابق محاضراً في الرياضيات في الجامعة العبرية بالقدس المحتلة .
(*) مقال كتبه ماخوير في الـ"لوموند" الفرنسية يوم 9 كانون الثاني 1969 .
أضواء على تيارات المعارضة في إسرائيل الحلقة (4)
"ماتس بن" وتجمعات معارضة أخرى.
010-09-07
"ماتس بن" وتجمعات معارضة أخرى
قلنا في العدد السابق أن"ماتس بن" وهو الاسم الذي اشتهرت به"المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية" تدعو من موقف يساري إلى إلغاء الصهيونية ،الأمر الذي يجعلها تعتقد أن فعالية أية حركة للمقاومة الفلسطينية ينبغي لها أن تنطلق من موقف يساري اشتراكي . وهي،من هذه الناحية،تختلف جذرياً تقريباً عن موقف القوة الجديدة،أو حركة " هاعولام هزه"(أوري افنيري) ،التي تدعو إلى استبدال الصهيونية بشيء اسمه"القومية العبرية" - وهي دعوة تنسق مع مشروع افنيري الغريب لإنشاء"دولة أورشليم"! "ماتس بن"،من هذه الزاوية،لا تدور حول المشكلة لتعود للفرق فيها من الباب الخلفي كما يفعل"أوري افنيري"،ولكنها تواجهها بطريقة مختلفة - في الحقيقة - هي الأولى من نوعها في تاريخ الحركة الصهيونية منذ هزمت المجموعات المتعصبة في مطالع هذا القرن التيارات اليسارية الأممية التي تزعمها يهود من أوروبا الشرقية آنذاك. وللمنظمة الاشتراكية الإسرائيلية في هذا النطاق منطق ينسحب إلى ما هو ابعد من الموقف اليومي الخاص بإطارها،فهي تفترض أنه،من أجل الخروج من الحلقة المفرغة،فإن حركات المقاومة الفلسطينية مدعوة لإعطاء يهود إسرائيل بديلاً" لمصير الموت" .
رد فعل عربي ؟
ولذلك فهي ترى أنه إذا ما تبنت حركات التحرير الفلسطينية برنامجاً سياسياً تقدمياً،فإن كثيراً من اليهود قد يساعدونها حتى في أعمال العنف.إن إسرائيل لن تستطيع تصفية حركة المقاومة الفلسطينية،ولكن هذه الحركة لا تستطيع أن تحل المشكلة وحدها بالرغم من أن لها دور مهم لتلعبه،وربما كان الدور الذي تستطيع حركات التحرير الفلسطينية أن تلعبه سيكون كبيراً جداً إذا استطاعت هذه الحركات أن تقدم للإسرائيليين بديلاً عن الصهيونية،ومن هذه الناحية تلمح "ماتس بن" إلى أن على الفلسطينيين أن يوضحوا فكرهم الاشتراكي بصورة أفضل وأكثر تحديداً . ولكن"ماتس بن" لا تعتقد أن حركة معارضة إسرائيلية من طرازها ستكون ذات قوة جماهيرية داخل إسرائيل إن لم تكن في نضالها متوازية مع حركة عربية مماثلة،تعطي للإسرائيليين خياراً آخر غير الموت،وهي تعتقد أن مفتاح قوتها،لذلك،موجود في أيدي العرب أنفسهم.
سلسلة أزمات
والواقع أن "ماتس بن" تعاني من سلسلة أزمات وتناقضات ومصاعب،ربما كان في طليعتها كونها واقعة بين نارين: فمن جهة يتهمها الإسرائيليون بالخيانة،بصورة غير مباشرة،ويتهمونها"بالتواطؤ مع العدو "،ومن جهة أخرى ينظر إليها العرب- حتى في داخل إسرائيل- بعين الشك ،ليس فقط من حيث المدى الذي تستطيع أن تذهب إليه،ومن حيث حقيقة فعاليتها. إن كثيراً من العرب في فلسطين المحتلة يشكون في أن يكون مجموع الأعضاء العاملين في "ماتس بن" يزيد عن المائة شخص في أحسن الأحوال،وهم في هذا المجال لا يشكلون"رأياً عاماً" ولا يستطيعون في المدى المنظور الصعود إلى مستوى حزب نافذ،أو تنظيم قادر على خلق مناخ معارض حقيقي . وفي الحقيقة فإن بعض عرب فلسطين المحتلة،المتابعين بدقة لمظاهر من هذا النوع،يرون أن مجموع الأعضاء العاملين،والمنتسبين تنظيمياً إلى "ماتس بن" لا يزيد في حقيقته عن خمسين رجلاً وامرأة،وضعتهم آراءهم في شبه عزلة،وإن كونهم يعكسون ظاهرة أوروبية شابة متمثلة في تيارات اليسار الجديد يثير من حولهم مصاعب تتعلق بمدى قدرتهم على ألا يكونوا مجرد ظاهرة عابرة ومحدودة لنوع من تعبير الجيل الجديد عن ضياعه وغضبه. ولاشك أن كون"ماتس بن" جزء من هذا التيار العالمي الشاب يضع هذا التنظيم في موقع الخصم،تقريباً،للحزب الشيوعي الذي يشكل قوة لا يستهان بها في إسرائيل،وسيزيد هذا الواقع في محاصرة أية فعالية ممكنة لهذه المجموعة،ويتوقف الكثير من مستقبلها على قدرتها في ممارسة التخطيط السياسي لنشاطها.
السمعة والحجم
ومن هذه الناحية تبدو "ماتس بن" بصورة غريبة،ويبدو أن عدداً كبيراً من عناصرها المحدودة يعملون بصورة متفرغة للتنظيم. ومن المشكوك فيه أن يكون هؤلاء من العناصر العمالية والفلاحية والطبقات الفقيرة الأخرى،ويبدو أن غالبهم من المثقفين،ومن نتيجة ذلك - كما يقول بعض المتتبعين- أن تكون الضجة التي يثيروها حول أنفسهم هي أكبر بكثير من الحجم الحقيقي لقدرات هذا التنظيم،فهم يصدرون عدة نشرات داخل إسرائيل و خارجها،ويتعقبون -في أوروبا خصوصاً - المحاضرين الإسرائيليين الرسميين ويضعونهم من خلال المناقشات العلنية البارعة في مواقف حرجة نتيجة لاطلاعهم الدقيق الواسع،ليس فقط على طبيعة الإعلام الإسرائيلي ونقاط ضعفه،ولكن أيضاً على حقائق ما يجري في إسرائيل وفي الأراضي المحتلة . ويخشى أن يؤدي ذلك كله إلى خطأ في تقييم الحجم الحقيق لهذا التنظيم،وبالتالي الانسياق معه في آمال أو تصورات لا محل لها في الحقيقة. والمطلوب بالطبيعة هو تقدير حقيقي للدور الذي يستطيع تنظيم من هذا النوع أن تلعبه،الآن وفي المستقبل:فعلى سبيل المثال قام عدة أفراد من هذا التنظيم بتظاهرة صاخبة مؤخراً ضد السلطات الإسرائيلية حين كانت هذه الأخيرة تحتفل بذكرى "تأسيس الدولة" وبالرغم من النطاق المحدود،والأثر الضيق،الذي أدت إليه هذه التظاهرة،فإن حدوثها في حد ذاته دلالات يجب ألا تغيب -بدورها- على ذهن المتعقب لما يجري داخل البنية الإسرائيلية ذاتها. ولكن الوسائل الإعلامية التابعة لـ"ماتس بن" جعلت من هذا الحادث قصة كبيرة،ستبدو بالنسبة للمراقب في الخارج ذات قيمة تعلو أضعاف القيمة الحقيقية لها.
حركات أخرى
هناك حركات أخرى،يمكن أن توصف بأنها اقرب إلى ماتس بن منها إلى تنظيم آخر ،أبرزها حركة صغيرة نشأت بعد حزيران،ولكن ليس اسم"التجمع المضاد للضم" وهي على أساس التنظيم الحزبي،اتخذت مبدئياً ردة فعل لإنشاء حركة إسرائيل الكبرى،ولذلك فهي ترفض ضم الأراضي المحتلة،وتدعو إلى حقها في تقرير مصيرها.وترى فكرة الاتحاد الفدرالي بين دولة فلسطينية وإسرائيلية فكرة تستحق المناقشة. وهذا التجمع يفتح أبوابه،ربما على أساس جبهوي،أما جميع المعارضين في إسرائيل ،بما في ذلك أعضاء من حزب المابام،ولذلك فإن توقع نجاحه واتساعه يظل توقعاً محدوداً. إن أعضاء هذا التجمع هم في الغالب فئة من المثقفين ذات اتساع محدود،وجهد إعلامي. إن هذا التجمع،في الخطوط العريضة لتفكيره الذي لم يتبلور بصورة حاسمة،يؤمن بوجود القومية العربية،ويرى في دولة فلسطينية مستقلة ضرورة مفيدة.ويبدي إيمانه بأن أية مفاوضات حول هذا الموضوع تستحق أن تبدأ بحوار حول حدود 1948،وأن الأساسي في الأمر هو حلف عدم اعتداء،والتزام بالحياد. إنه يؤيد حركات التحرير الفلسطينية من حيث المبدأ،ولكنه يرى أنها في حاجة لبرنامج سياسي واضح،يتضمن اعترافاً بحق شعوب المنطقة في تقرير مصيرها.إنه ليس ضد الصهيونية في ذاتها ولكنه ضد استخدامها في الإطار الرجعي ،وهو يعتقد أنه حين تقبل إسرائيل من العرب فإن الصهيونية ستتغير،وكذلك ارتباط إسرائيل بالولايات المتحدة . إنه يعترف بأن إسرائيل جاءت نتيجة للظلم،وهو من هذه الناحية يدين ولادتها،ولكنه يقول بأن التاريخ لا يمكن تغييره بما يختص بالماضي،وإنه إذا طرد اليهود من إسرائيل بواسطة القوة العربية،فإن ظلماً آخر سيكون قد حل مكان الظلم القديم.
مجلس السفارديم
توجد تجمعات معارضة أخرى،ذات قيمة أكثر أو أقل،يسارية أو معتدلة،سياسية أو غير سياسية،ولعل أهم ما في هذا النطاق هو"مجلس المجتمع السفارديم" الذي يصف نفسه بأنه أقدم تجمع من نوعه في العالم.إذ يزعم أنه تأسس عام 1286،وهو يحتكر حق الكلام باسم اليهود الشرقيين في إسرائيل،ويصدر مجلة شهرية تحمل حملات منتظمة على نظام الحكم المناهض لليهود الشرقيين،والذي يمارس ضدهم أسوأ وأبشع أنواع التمييز والاضطهاد،وكان هذا المجلس قد نشر منذ سنوات كتيباً بالانكليزية اسمه"منبوذوا إسرائيل" بقلم ميخائيل سلزر(القدس 1965) ،ولكنه ما لبث غي 1967 أن قام بإبعاد سلزر هذا من عضويته لأن مواقفه انتهت كما يبدو إلى التوسع نحو إعطاء آراء بالحالة السياسية ،وهو أمر يحاول"مجلس السفارديم" أن يتجنبه قدر الإمكان،معتبراً نفسه مجرد جمعية تعنى بشؤون اليهود الشرقيين،دون أن يلزمها هذا باتخاذ مواقف ضد أي كان،ولا مع أي كان!
|