Report 6 Israeli Historians - 1/2

1- المؤرخون الاسرائيليون الجدد- تيار المراجعة:

 

إعادة تأهيل الصهيونية لمواجهة تحديات 20 سنة قادمة

 

   بقلم: تيسير نظمي *

 

                                                 2شباط 2004                                                                                                                          

 

أول ما يتبادر إلى الذهن لدى المتتبع لتلاميذ ماندلسون من الأكاديميين وبخاصة المؤرخين الإسرائيليين الجدد الحريصين على التجديد والتنوير والحداثة وبالتالي عصرنة الحركة الصهيونية، من خلال الصراع الفكري الذي يخوضونه مع اليمين الصهيوني المتزمت، هو ذلك الصراع الدامي بين شيوعية ستالين ونهجه وشيوعية تروتسكي وفكره. لدرجة يدرك معها المتتبع لمسار وتطور الإتحاد السوفييتي أن ألإخفاق في استيعاب كتاب تروتسكي الهام عن "الثورة الدائمة" وغيره من مؤلفات ومقالات تروتسكي وخاصة تلك التي حذرت في وقت مبكر من خطورة صعود النازية في ألمانيا، أدى بالنتيجة، وبالضرورة، إلى تدفيع معقل الشيوعية الثمن باهظاً في الحرب العالمية الثانية ولعدم التماسك في مواجهة الإمبريالية وبالتالي تفكك الدولة السوفيتية. وتلاميذ ماندلسون الجدد في إسرائيل حريصون من هذا المنطلق على عدم إنهيار الحلم الصهيوني بتجديدهم له وإن جاز التعبير "تثويرهم" للكلاسيكيات الصهيونية التي لن تناسب من سيقودون "الدولة" بعد نحو عشرين سنة على الأقل. من هنا نستطيع أن نفهم مرامي الجدل القائم والذي سيستمر حرصاً على بقاء وديمومة وصيرورة إسرائيل في "الشرق الأوسط" وحرصاً على ضمانات العصرنة والبقاء وتجديد الدماء، لنقل "الحدثنة الدائمة" للصهيونية ذاتها وإن تحت شعار "ما بعد الصهيونية" سواء راق لنا هذا المصطلح أم لم يرق!

 

الإفراج عن بعض الوثائق السرية بعد تحييد مصر.

 

.
فمنذ توقيع اتفاقات "كامب ديفيد" الأولى مع مصر تم الافراج عن الدفعة الاولى من الوثائق السرية التي تتعلق بالمأساة الفلسطينية وحرب (1948) وبذلك بدأت تتوفر بين ايدي الدراسيين الاسرائيليين وثائق عن المرحلةالممتدة ما بين (1947) ولغاية (1953). وعلى غرار ما يجري في الدول التي تعتمد هذا المبدأ مثل بريطانيا وفرنسا وأميركا فان الاهتمام ينصب حول تصحيح بعض القناعات المنتشرة بين الناس والتي تثبت الوثائق كونها قناعات باتت خاطئة مع التطور وتقدم العصر. ووصل الاهتمام بتصحيح تلك القناعات الخاطئة وتقويمها الى الصحافةاليومية والمدارس اما الوثائق الأكثر إثارة أو أكثر خطورة كتلك التي يتحدث بها أو بما يشبهها كاتب مثل إسرائيل شاحاك أو ناعوم تشومسكي فإنه لم يحن أوانها والأرجح أن تظل طي الكتمان في خزينة "الدولة" ربما عشرين سنة أو ثلاثين أخرى.. ومع ذلك فقد ادى كشف القناعات الخاطئة ومحاولات تصحيحها الى نشوء تيار جديد عرف بتيار “المراجعة” او “المؤرخون الاسرائيليون الجدد”. ولقد ادى هذا التيار الى حدوث انقسام فكري منهجي في المجتمع الاسرائيلي بين مؤيد للتيار ومعارض له. وحدة هذا الإنقسام تعتبر غير عادية بالمقارنة مع دول اخرى تواجه حقائق أقل صعوبة من تلك التي تواجهها اسرائيل عبر هذه المراجعات. ومن الملفت ان حزب العمل يتبنى هذا التيار الجديد. في حين يلقى هذا التيار معارضة ليكودية عنيفة تضعه في قلب السياسة الاسرائيلية وصراع اقطابها.

 

 

 

ولا بد لهذه المواقف الحادة من ان تستتبع طرح سيل من الاسئلة يحتاج الى ترتيب تسلسلي مناسب وصولاً الى فهم هذه الاهمية لهذا التيار الذي اكتسب تسمية الحركة بسرعة تطرح اسئلة اضافية. بعض المهتمين بالحركة يربطون بينهاوبين الاحساس الاسرائيلي بالخطر بداية حرب تشرين أول 6 أكتوبر (1973). في حين يميل البعض لاعتبارها اختراعاً جديداً للعلمانيين في حزب العمل. بينما يصر آخرون على اعتبارها حلقة من حلقات صراع الهوية في اسرئيل. ويصل البعض الى حدود وصفها بالحركة الساعية لوضع حد للصراع العسكري مع العرب عبر تسوية لا تصل الى مرتبة السلام. وتبقى قلة قليلة ترى ان حركة المؤرخين الجدد هي مزيج من كل ذلك في آنٍ معاً.لكنها كما سنرى الأكثر عقلانية وحرصاً على مواكبة التطورات و"الديموغرافية" منها على وجه التحديد. ولنا في بداية تأسيس الدولة العبرية عبرة مستخلصة من معاناة ورثة موشيه شارت الذين تم منعهم من نشر مذكرات أول وزير خارجية لإسرائيل وثاني رئيس وزراء لها بعد بن غوريون المؤسس والخلاف بينهما على بعض المسائل كما وردت في مذكرات شارت التي قمت بترجمتها حين صدورها لأول مرة عام 1980 وأنا شبه غير مصدق لليبرالية شارت وعلمية تفكيره وحساباته فيما يخص طروحات بن غوريون عام 1954 بإسقاط مبكر لنظام جمال عبدالناصر وإنشاء دولة مارونية في لبنان. وهذا ما يقودنا بالتالي لتفسير سر هذه الحركة للمؤرخين الجدد ناهيك عن التكتم الذي ما يزال مستمراً على مكتشفات مخطوطات البحر الميت التي تزيد الأمر صعوبة في تحديد محفزات اليمين واليسار والوسط في الجدال الفكري الدائر من أجل مستقبل إسرائيل. وهو التفسير الاصعب والاكثر إستثارةللاسئلة التالية:

 

 

 أسئلة الدارسين المتباينة:

 


1

ـ ما هي توجهات هذه الحركة ؟ و2 ـ ما سر دعم بيلين ورابين لها؟ و3 ـ ما علاقة الحركة بمشروع رابين (الشرقاوسطية)؟ و4 ـ ما علاقة الحركة "المشروع" بطروحات الهوية؟ و5 ـ ما هي الاصول التاريخية للحركة؟ و6 ـ ما هي منطلقات المعارضة الاسرائيلية للحركة؟ و7 ـ ما هي انعكاساتها على التأريخ الرسمي العربي؟ و8- هل لمكتشفات مخطوطات خربة قمران علاقة بالبدء بترميم ما تبقى من الأساطير الدينية أو بنبذها التدريجي من ذهن الأجيال المقبلة؟ و9- هل باتت الصهيونية تخشى على نفسها من الزوال الأيديولوجي على الأقل أو تخشى على اليهود من الذوبان التدريجي خارج "الجيتو" لو ظهرت أجيال "ما بعد اليهودية" مثلاً؟ ما بعد العهد القديم وأسفاره الخمسة؟ مابعد التلمود مثلاً؟ مما استدعى التسريع باستباق التجهيز لما هو مقبل وحتمي؟!!سأجتهد ومن اجتهادات الآخرين أيضاً وآرائهم وقراءاتهم وحتى بعض ترجماتهم خلال هذا البحث رغم علمي بأن الكثير من الحقائق ستظل ملكاً للأقوى وحكراً له وعليه (كما كانت عليه الحالة بين ستالين والمنفي تروتسكي) وبالتالي، ما الأسئلة السابقة سوى مؤشرات وبعضها إيماءات ليس مثل إيماءة بن غوريون لجنوده بطرد الفلسطينيين عام 1948 ولكنها إيماءات نحو الحقيقة الرابضة لنا جميعاً هناك بعيداً ، في المستقبل الذي ينتظر أجيال أجيالنا جميعاً أن تصنع ما ستصنعه فيه وأن تكتشف ما لم نكتشفه نحن ، تماماً ، مثلما اكتشف الكثيرون تخبيصات ستالين وعظمة تروتسكي (من النبي المسلح مرووراً بالنبي الأعزل حتى النبي المنبوذ وصولاً للتصفية الجسدية) ولكن أرجو أن لا يكون ذلك بعد فوات الأوان، حيث وجه الشبه هنا ليس بين أشخاص وإنما بين شعوب، الشعب الفلسطيني هو المنبوذ فيها والذي يطالب أحد المؤرخين الجدد الاسرائيليين (بيني موريس) بضرورة تصفيته وترحيله وإبادته علناً (8/1/2004 – في لقاء معه في صحيفة هاآرتس اليسارية الإسرائيلية) :

 

 

التعريف بحركة المؤرخين الجدد.

 

تجنب التاريخ الاسرائيلي الرسمي مجرد الإشارة الى الخسائر اللاحقة بالفلسطينيين نتيجة حرب 1948. وبذلك وتجنب ذكر الدمار والخراب اللاحق بالمدن والقرى الفلسطينية وطرد الفلسطينيين من قراهم ومنازلهم وتدميرها بعد ذلك. وبذلك حافظت الرواية الرسمية الاسرائيلية على منطوق تاريخي موحد قوامه ان الصهيونية قد حققت معجزة اقامة دولة اسرائيل. وصفة المعجزة هي النتيجة المفروضة للطريقة الرسمية في سرد احداث حرب 1948. وذلك بدءاً بتسميتها بـ"حرب الاستقلال" في ايحاء انه استقلال لدولة اليهود عن التاج البريطاني! وهذه التسمية تعني التجاهل الرسمي الكامل لوجود شعب غير يهودي في فلسطين ايام الانتداب، مما يعني بأن التزوير التاريخي يبدأ من التسمية. ومنها ايضاً بدء المؤرخين الجدد برفض هذه التسمية فأصروا على استبدالها بمصطلح "حرب 1948". وهي بداية جيدة على اي حال! حيث حاول المؤرخون الجدد مراجعة الصيغة التاريخية الرسمية وتنقيتها من الاكاذيب ومن حيل الحرب النفسية التي تحولت الى مسلمات اسرائيلية لحين قيام هؤلاء المراجعين بالتشكيك في صدقيتها. ولا شك ان مهمة هؤلاء شاقة لان نقض المسلمات مهمة عسيرة وتحتاج الى اسانيد وحجج دامغة دون اي احتمال لبس.وفي عودة الى الرواية الرسمية فانها تعتبر حرب 1948 بمنزلة حرب التحرير. اي تحرير اليهود من ظلم بلاد الشتات وذلها. وتعتمد الرواية على مقولة اساسية قوامها ان ولادة الحركة الصهيونية كانت ردة فعل على الاضطهاد الذي تعرض له اليهود. ثم جاءت اسرائيل لتكون حلاً، ولوجزئياً، لمشكلة اليهود الاوروبيين. وهذا الحل كان هو الهدف الاساسي للصهيونية. التي لم تقصد الحاق الإساءة بعرب فلسطين. فالاستيطان الصهيوني كان مجاورة برأي الصهيونية التقليدية ولم يكن حرباً او بهدف طرد الفلسطينيين او ترحيلهم. ومع ذلك فقد وجدت اسرائيل نفسها في وسط عربي قاسٍ ولا يعرف الرحمة بحيث اضطرت الاقلية اليهودية (وقسم منها مصدوم وخارج من المعتقلات النازية) للدفاع عن نفسها في وجه اغلبية عربية تشن حرباً للقضاء على اليهود وعليها. لذلك رفض العرب قرار التقسيم وهاجموا اليشوف اليهودي بهدف اقتلاعه والقضاء على الدولة اليهودية في مهدها. وكان العرب مدعومين في ذلك من قبل البريطانيين. وتتابع الرواية الرسمية الصهيونية بأن العرب خسروا الحرب بعد ان تمكنت جماعة الهاغانا (كانت تسميتها العالمية آنذاك بالمنظمة الارهابية) من الانتصار على العصابات (وليس المقاومة) الفلسطينية المدعومة أو على وجه الدقة (المخذولة والمخدوعة) من قبل جيش الإنقاذ. وما لبثت الدول العربية الخمسة ان هاجمت الدولة اليهودية بجيوشها. وبهدف تسهيل مهمتها طالبت هذه الدول السكان العرب بمغادرة منازلهم لفتح الطريق امام تقدم الجيوش العربية ! وهذا الطلب العربي هو الذي أدى الى نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين.ومع ذلك بقيت الرغبة في السلام قائمة لدى الزعماء الاسرائيليين. لكن العرب رفضوا ذلك وقضوا على جميع المبادرات السلمية والنوايا الحسنة ! لانهم كانوا قد عقدوا النية على تدمير اسرائيل! ومع ذلك انتصر اليهود ونجحوا في اقامة دولتهم بالرغم من كل الظروف. وكان هذا الانتصار معجزة يهودية جديدة تحققت بفضل براعة بن غوريون وبطولة المقاتلين اليهود.
 وبعد قيام اسرائيل تحولت الرواية الرسمية الى تقديم صورة مثالية (بهدف تسويق الدولة الجديدة لدى يهود العالم) وتحول المؤرخون الرسميون الى نوع من الصحفيين الذين  يكتفون بنقل الأخبار الرسمية وتدوينها بأسلوب التأريخ منتبهين الى عدم تجاوز الخطوط الحمراء. (انظر كتاب "أسرار مكشوفة" لـ إسرائيل شاحاك) والتي يمكن تلخيصها بأي شيء يمكنه ان يسيء الى اسرائيل أو يكشف خططها غير المعلنة أو أسرارها التي باتت مكشوفة لدى ناعوم تشومسكي مثلاً . فكان المؤرخ الرسمي يتجاهل الحقائق ويتجاوز المعطيات التي تتوفر لديه باعتبارها اسراراً تمس الامن الاسرائيلي!. وهكذا تم طمس بعض الحقائق التاريخية بدون اي شعور بالمسؤولية.وخدمة للأغراض الصهيونية الضيقة التقليدية. لكن الامور بدأت تتغير مع ظهور المؤرخين الجدد في نهاية السبعينيات . اذ بدأ هؤلاء يخرجون على الرواية الرسمية في كتاباتهم. بادئين بذلك عملية اعادة نظر شاملة بمسلمات المؤرخين الرسميين. وبدأ هذا الجيل من المؤرخين بالاهتمام بالمسألة الفلسطينية وبآثار حرب 1948 وانعكاساتها على الفلسطينيين، منذ إعتراف مؤتمر القمة العربي عام 1974 بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني وخاصة بعد صدور قرار فك الارتباط الأردني بالضفة الغربية، فلجأوا الى اعادة كتابة وقائع الحرب من منظورها السياسي. فقد اطلق احد هؤلاء المؤرخين وهو "ايلان بابي" قاعدة مفادها ان على مؤرخ الحرب ان يولي اهتماماً اقل لتطوراتها العسكرية (تنقلها الصحافة) وان يولي اهتمامه للقيادة السياسية. ذلك ان الحرب نفسها هي قرار سياسي واستمرارية اي حرب انما ترتبط بفشل اطراف الصراع في الوصول الى تسوية سياسية. وهكذا بدأ صرح الرواية الرسمية بالتفكك أوالشك النقدي له تمهيداً لتجديده وبدأت الصهيونية التقليدية تفقد قناعها الكلاسيكي لتتبدى كحركة استعمارية "كولونيالية" بعد زوال قناعها التحريري!. وبذلك فان اسرائيل تحمل وزر الظلم والغبن اللاحقين بالفلسطينيين بسبب حرب (1948).وتدعمت هذه الآراء بالمعطيات التي كشفت عنها الوثائق الاسرائيلية المعلنة. حيث وجد المؤرخون الجدد البراهين والادلة اللازمة للطعن بصحة الرواية الرسمية. وكما يفعل اي مؤرخ موضوعيفان هؤلاء لم يتركوا مصدراً من المصادر المتوفرة للمعلومات دون ان يدرسوه ويخضعوه للمقارنة التاريخية. و قد استعانوا، الى جانب الارشيف الاسرائيلي، بالارشيفين الاميركي والفرنسي وكذلك البريطاني اضافة للمراسلات والاوراق الخاصة ومحاضر الاحزاب والمذكرات الشخصية ومقابلة العديد من الشخصيات. اضافة الىتقارير الديبلوماسيين الذين عملوا في قضية اللاجئين الفلسطينيين. هكذا توصل المؤرخون الجدد الى الطعن بالرواية الرسمية واتفقوا على كونها مركبة من مجموعة مقولات او ادعاءات غير دقيقة .
 وكذلك اتفقوا على تسميتها بـ"الاساطير الصهيونية". وقبل الانتقال الى تعداد المواضيع التي يتفقون على تسميتها بالاساطير نود ان نوضح اشكالية استخدامهم لمصطلح "اساطير". فالاسطورة تعريفاً يجب ان تكون حادثة قديمة تنطوي على خوارق. والمواضيع المطروحة حديثة ولا تنطوي على خوارق فكيف يصح وصفها بالاساطير؟ وهي مجرد اكاذيب! ان ما يبرر استخدام هذا المصطلح هو ان الصهيونية قد نجحت في ربط كل كذبة من اكاذيبها بواحدة من الاساطير اليهودية. ومن هنا نجد ان لمصطلح "الاساطير الصهيونية" دلالات معبرة ومحددة. لذلك فاننا نفضله على مصطلح اكاذيب. بل اننا نرى بأن اتقان الصهيونية لهذا الربط يستدعي الدراسة؟. وبالعودة الى المؤرخين الجدد نجدهم متفقين على تحديد تلك الاساطير. بحيث نراها تتكرر بشكل روتيني في كتاباتهم. الا اننا نلاحظ في المقابل عدم اتفاقهم منهجياً حول القراءة الجديدة للاساطير التالية:

 

مراجعة الأساطير التقليدية ونفض الغبار عن الصهيونية

 

..
1ـ ادعاء الزعماء الاسرائيليين قبولهم لقرار التقسيم الصادر عن الامم المتحدة في 29/11/1947. واعتبار هذا القبول اعراباً عن رغبتهم الصادقة في التوصل الى تسوية سلمية تسمح باقامة دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل.

 

2 ـ ان نزوح الفلسطينيين حصل بسبب نداء من القادة العرب طلبوا فيه من الفلسطينيين مغادرة ارضهم بصورة مؤقتة تسهيلاً لدخول الجيوش العربية.

 

3 ـ تدعي الرواية الرسمية ان اسرائيل كانت مضطرة لخوض حرب (1948) وذلك بسبب عدائية الدول العربية ورفضها قرار التقسيم واصرارها على خوض حرب تقضي فيها على اسرائيل في مهدها.

 

4 ـ كانت اسرائيل، عند صدور قرار التقسيم، ضعيفة وصغيرة وغير مستعدة لخوض مواجهة عسكرية امام جيوش عربية تفوقها عدداً واستعداداً.

 

5ـ أن اسرائيل كانت دوماً مستعدة لاقامة السلام مع العرب. لكن هؤلاء كانوا يرفضون الاعتراف بها.

 

وتمكنت حركة المؤرخين الجدد من ضحد الاساطير الخمس بطرق ومنهجيات مختلفة باختلاف الوثائق التي تمكن كل منهم من الحصول عليها. لكن البعض يرى أن اختلافاً ايديولوجياً بين هؤلاء يجعلهم يقرأون المعطيات المتوفرة بين ايديهم بطرق مختلفة. بينما البعض الآخر يتساءل مشككاً عن جدية هذه الاختلافات. وعما اذا كانت مجرد خلافات منهجية او تصورات مختلفة لمستقبل اسرائيل. خصوصاً وان المعلومات المتوفرة عن هؤلاء تشير الىعلاقتهم بحزب العمل وبملكيتهم لخلفيات ليبيرالية تجعلنا نشكك بوجود خلافات ايديولوجية بينهم. وهذا ما سيتضح لاحقاً وما أشرنا إليه في مستهل هذه الدراسة.

 

مهندس أوسلو يدعم التنوير والمؤرخين الجدد وحركتهم..

 


يوسي بيلين احد مفكري حزب العمل ومنظريه قبل تسلمه منصب وزير العدل في حكومة باراك وهو مهندس اتفاق أوسلو والمتحمس لادخال افكار المؤرخين الجدد الى المدارس الاسرائيلية (غير الدينية) وتدريسها للتلاميذ. فهل يتحمس مفكرمثل بيلين لمثل هذا القرار بصورة عشوائية. خصوصاً ضمن حكومة إئتلافية هجينة يعارض العديد من اعضائها مثل هذا القرار؟. فلنتعرف اولاً الى فكر بيلين ورؤيته الاستراتيجية للواقع الاسرائيلي خصوصاً واليهودي عموماً. وهذا ما يمكن الاطلاع عليه عبر كتابه المعنون بـ"موت العم الاميركي". وفيه يقول: أن التيار المركزي في الحركة الصهيونية المنحاز الى هرتزل هو الذي فشل في تحقيق الهدف الصهيوني. فقد كان هم هرتزل الاساسي هو منح يهود اوروبا ملجأ آمناً من المطاردات. ولهذا السبب كان الصهيونيون على استعداد لمناقشة أية خيارات تمنحهم حكماً ذاتياً يهودياً في اي مكان من العالم وبسرعة. ولم تكن الهجرة الى فلسطين تمثل خياراً اولاً بالنسبة لمعظم يهود اوروبا. بل كانت تمثل خياراً إجبارياً وناقصاً. لذلك هاجر أغنياؤهم الى الولايات المتحدة لانها قبلتهم. وهذا ما يدفع بيلين للتساؤل عن مستقبل اليهود واليهودية خارج اسرائيل فيرى بانهم يتناقصون ويسيرون نحو الذوبان. ويتابع: انني اشعر بنوع من الهيستيريا والخوف إزاء ذوبان الشعب اليهودي خارج دولة اسرائيل. فاليوم وبعد 51 سنة على قيام اسرائيل هنالك 13 مليون يهودي. منهم عشرة ملايين يعيشون في الولايات المتحدة واسرائيل. اما شرقي اوروبا فانه سيفرغ من اليهود. لان غالبيتهم يحلمون بالهجرة الى اميركا و60% منهم يعقدون زيجات مختلطة.

وكذلك يفعل يهود الولايات المتحدة مما يؤدي الى تناقص مستمر في عدد اليهود خارج اسرائيل. خصوصاً مع تناقص معدل الولادات الطبيعي لهؤلاء اليهود. وينبه بيلين من الخطورة الكامنة في تناقص اعداد يهود الشتات الذين يشكلون الخزان البشري للدم اليهودي. ويحاول بيلين في كتابه البحث عن سبب هذا التناقص الحاد فيخلص الى ان اسرائيل تقوم بدور مزدوج بالنسبة ليهود الخارج ولكنه منتاقض في تأثيره على يهود العالم. فاسرائيل تتيح لهم موقع انتماء واعتزاز واحياناً موقع قلق وخوف. وهذه الميزات وفرت القوة ليهود الخارج. وساعدتهم في الحفاظ على وجودهم. لكن اسرائيل سنت قانوناً للهجرة حددت فيه تعريف اليهودي الذي يحق له الهجرة اليها. مما ابعد عنها ملايين الاشخاص الذين يعتبرونانفسهم يهوداً ولكنهم لا يستوفون شروط تعريف اسرائيل لليهودي. القائل بانه الشخص المولود من ام يهودية واصبح يهودياً بحسب الشريعة اليهودية وبمصادقة الحاخامين الارثوذوكس. وبذلك تكون اسرائيل قد اعطت للمحافل الدينية اليهودية وحدها حق الحسم في مسألة ذات جوهر قومي. ويرى بيلين ان استمرار العمل بهذا القانون يشكل انتحاراً جماعياً. فالمتدينون اليهود يريدون جعل اليهودية ديناً فقط ونحن نراها اكثر من ذلك... فنحن نراها ثقافة وهوية ومصيراً. ثم يتساءل: من وضع الحاخامين في موقع من يسقط اليهودي من يهوديته؟ ففي الولايات المتحدة وحدها يوجد ما بين مليونان الىثلاثة ملايين اميركي في زيجات يهودية ـ مسيحية مختلطة. والحاخامات لا يعتبرون هؤلاء يهوداً. وثمة آخرون مثلهم في الاتحاد الروسي. ويستنتج بيلين الضرورة الحيوية لصياغة قانون جديد يسمح بهجرة هؤلاء الذين يرفض الحاخامات اعتبارهم يهوداً.
 ويقترح بيلين الاعتماد على الرغبة الشخصية للمولودين من ام غير يهودية ولهم اقرباء يهود (ولو قرابة بعيدة). فاذا اختار الشخص الديانة اليهودية فليمنح هذه الصفة وليسمح له بالهجرة الى اسرائيل. على ان يكون ذلك عقب اختبار قصير بمباديء الدين اليهودي. على غرار الامتحان الموجز بالدستور الاميركي الذي يخضع له طالبوا الجنسية الاميركية قبلمنحها لهم. وبذلك يكون يوسي بيلين قد وضع اسس “التهويد العلماني”.من خلال هذا الملخص الموجز لكتاب بيلين نجد ان هذا المفكر يدعو لإعادة النظر بالمشروع الصهيوني برمته. منذ هرتزل وحتى اليوم. وهو يطرح مراجعة كاملة له وليس مجرد مراجعة بعض التفاصيل التاريخية الفرعية. وهو ما يفعله المؤرخون الجدد. مما يجعل من هؤلاء مجرد مرحلة أولية من مراحل مشروع ما . لكن هل يمكن القول بأن هذا المشروع هو مشروع بيلين الشخصي؟ ام انه يأتي في سياق المشروع العام لحزب العمل؟ أم مشروع عصرنة الصهيونية ذاتها ؟ وهذا ما سنعرفه من استعراض موقفه من المؤرخين الجدد.

 

رابين يتبنى المؤرخين الجدد ويقرر تدريس كتبهم ..

 


لم يكن إدخال كتب المؤرخين الجدد وانتقاداتهم الى المدارس الاسرائيلية وليد قرار مفاجئ. فقد استغرق اعداد هذه الكتب خمس سنوات كاملة. وكان المشروع قد انطلق برعاية اسحق رابين. الذي يبدو بذلك وكأنه الراعي الاساسي للمؤرخين الجدد. اما عن مشروع رابين السياسي المعلن فهو مشروع "الشرق اوسطية" أي نحو شرق أوسط جديد الذي طرحه رابين تحت شعار "نحو شرق اوسط جديد". وكان هذا المشروع قد أثار لغطاً كبيراً واستثار معارضة اكبر ادت في النهاية الى إغتيال رابين نفسه. والآن وبعد مرور سنوات على هذا الاغتيال وخروج مصطلح "الشرق اوسطية" من التداول، لا بأس من محاولة قراءة هذا المشروع على ضوء طروحات الهوية الاسرائيلية. حيث تشكل الشرق اوسطية طرحاً جديداً لهذه الهوية. فما هي علاقة هذا الطرح بالطروحات القديمة؟ الجواب على هذا السؤال من شأنه ان يوضح اتجاه التمرد الذي تخوضه حركة المؤرخين الجدد. وبمقارنة الشرق اوسطية مع طروحات الهوية الاخرى. نجد انها تعارض الطرح الكنعاني الرافض الاعتراف بيهود الشتات. فما بالنا بالشتاتيين المشكوك بيهوديتهم. والامر نفسه ينسحب على الطرح العبري. اما الطرح الاسرائيلي فهو بدوره لا يتسع لانصاف اليهود وارباعهم من الشتاتيين. بالنسبة للطرح اليهودي فاننا نلاحظ ان بيلين قد اعلن موت هذا الطرح في كتابه المشار له آنفاً. حيث فقد هذا الطرح، او يكاد يفقد قريباً، خزانه البشري. بل انه من الممكن عملياً اعتبار هجرة المليون روسي آخر الهجرات اليهودية.

وفي نظرة اكثر واقعية نجد ان حزب العمل قد تجاوز التعريف الرسمي لليهودي تجاوزاً عميقاً اذ تشير الاحصاءات الى ان 65% من المليون روسي لا يستجيبون لهذا التعريف. وهكذا لم يبق امام اسرائيل سوى استقدام انصاف وارباع اليهود. وهذا ما حاولته الشرق اوسطية بطرحها تحويل اسرائيل الى دولة مفتوحة على جوارها العربي ومانحة جنسيتها لمن يناسب مصالح سباقها الديموغرافي مع الفلسطينيين. هذا تحديداً ما عبر عنه بيلين بطرحه "التهويد العلماني". ولكي نفهم طروحات حزب العمل العامة علينا ان نتذكر بانه علماني يعتنق الايديولوجيا الصهيونية التي قامت على خزان بشري مكون من يهود الشتات. اما وقد شارف هذا الخزان على النفاذ فان الحزب اصبح بحاجة لان يخطو خطوة ما بعد صهيونية. وما المراجعات الإنتقادية للمؤرخين الجدد سوى مرحلة من مراحل هذه الخطوة. وهذا ما سنوضحه في الفقرة التالية.

 

 

المؤرخون الجدد ومآزق الهوية الاسرائيلية..

 


ان انطلاقة الحركة اواخر السبعينيات لم تكن مصادفة بحتة. فقد أدت حرب (1973) لاحداث هزة في المجتمع الاسرائيلي. واستثارت هيستيريا الايام الاولى للحرب وساوس اسرائيلية لا نهاية لها. وقد نجح بعض الكتاب الإسرائيليين في ترجمة هذه الوساوس الى اسئلة نذكر منها على سبيل المثال:

 

1ـ ماذا لو تكررت المفاجأة ولم تكن الولايات المتحدة في وضع يسمح لها بالتدخل لمصلحة اسرائيل لسبب او لآخر؟.

 

2ـ لقد اعتمدت اسرائيل في حروبها مع العرب على دعم يهود الشتات المادي والمعنوي. لكن هؤلاء سائرون الى التلاشي. وهذا يعني ان اسرائيل لن تجد مستقبلاً من يدعمها!

 

3ـ ان الاقتصاد الاسرائيلي قائم على معونات (اميركية خصوصاً). كما برهنت حرب(1973) على ان بقاءها مرتبط بالدعم العسكري المباشر.فهل يمكن بعد ذلك الادعاء بان الصهيونية قد بنت دولة اسمها اسرائيل؟.

 

4 ـ هل صحيح ان النصر ليس من نصيب الاقوى بل هو من نصيب الاكثر اصراراً وقناعة بهذا الإصرار؟

 

5ـ ـ اياً من طروحات الهوية الاسرائيلية المعروفة اكثر ملاءمة لواقع اسرائيل ومستقبلها؟.

 

 

والاجابة على هذه الاسئلة تختلف اختلافاً بيناً ما بين حزبي العمل والليكود. وباختصار فان حزب العمل يميل الى اعتماد تسوية سلمية لا ترقى الى حدود السلام العادل الشامل. مع ما تقتضيه من تنازلات! اما حزب اليكود فهو يميل الى تأمين موارد اقتصادية ذاتية تلغي تبعية اسرائيل. وبما ان كل ثروات الارض ملك لليهود فانه من غير المهم طريقة تأمين هذه الموارد (المافيا، مخدرات، خيانة وبيع اسرار، صفقات سرية، تحالفات مشبوهة...). حركة المؤرخين الجدد من جهتها تبنت تكليف حزب العمل لها بالتمهيد للتسوية السلمية. على ان يبدأ ذلك بالتمهيد لنشر حقيقة استحالة استمرار العداء الاسرائيلي للعرب على المستوى الذي كان عليه منذ (1948) وحتى اليوم. ويتضمن الشرح التركيز على النقاط التالية:

 

1 ـ ان الوثائق المتوفرة تشير الى قابلية الحكام العرب للسلام مع اسرائيل. وبالتالي فان عدوانية الحكام العرب لاسرائيل ورفضهم السلام معها كان مجرد شائعة اسرائيلية. فها هو أفي شليم يعرض للعلاقات السرية بين اسرائيل والملك عبد الله بالوثائق. كما يؤكد بيني موريس في كتابه “ما بعد 1948” ان الحكومة المصرية عارضت طوال اشهر الاشتراك في حرب فلسطين لكون جيشها غير جاهز لمثل هذه المشاركة.

 

2 ـ ان الفلسطينيين لم يستجيبوا لنداء اعلان الحرب الا بعد فشل محاولات العديد من زعمائهم في التفاهم مع الاسرائيليين على صيغة عيش مشتركة مقبولة . وكان سبب ذلك رفض بن غوريون القاطع لقبول قيام دولة فلسطينية. وهذا ما يعلنه أفي شليم مدعماً بالوثائق.

 

3 ـ ان اسرائيل دخلت حرب 1948 وهي على تمام الاستعداد العسكري والتفوق على جيرانها. وهي التي اصرت على هذه الحرب وليس العرب.

 

انطلاقاً من هذه المعطيات وكثيرة غيرها. وانطلاقاً من دحض الاساطير الصهيونية الخمس المشار اليها آنفاً يمكن لاصحاب طروحات الهوية المختلفة ان يعتقدوا بأن اياً من طروحاتهم كان صالحاً للاعتماد لولا اكاذيب ما اسماه بيلين بالتيار المركزي للصهيونية. فقد تألف هذا التيار في حينه من مجموعات (ارهابية) كان من الطبيعي ان تميل الى خيار القوة. وهو الخيار الذي نسف غالبية الطروحات واوصل الطرح اليهودي الىحافة الهاوية.

 

وبهذا تكون الحركة قد استثارت اصحاب الطروحات وارست المقدمات للردة على الصهيونية أو بالأحرى تجديدها. وهي ردة قد لا يتحملها الجيل الحالي ولكن تلاميذ المدارس الذين يدرسون حالياً التاريخ الجديد سيكونون اقدر على تقبلها والعمل لها. وهنا تجدر الاشارة الى ان الدور الوظيفي لاسرائيل هو المحدد الحقيقي لهويتها. فهي تدين بنشوئها واستمراريتها الى الفائدة التي تقدمها للمصالح الغربية عبر دورها كرأس حربة في منطقة الشرق الأوسط باهميتها الاستراتيجية الفائقة. وعليه فقد بقيت طروحات الهوية الاسرائيلية موضوع جدال لما ينتهي. ولعلنا نتساءل عن سبب بقاء صراع الهوية الاسرائيلي في مرحلة الجدل وعدم تخطيه اياها الى مرحلة مواجهة وصراع؟ والجواب ان هنالك آليتين ضابطتين بشدة لأي صراع داخلي ـ اسرائيلي. وهما:

 

1 ـ الانتماء الى شعب الله المختار ونعمة هذا الانتماء الجامع لليهود و2 ـ المصالح الاميركية. التي تتطلب خدمتها مراعاة منحنيات العلاقات العربية ـ الاميركية ودهاليزها. وهاتين الآليتين تشكلان عنصر وقاية فاعل لاسرائيل ضد اية تهديدات خارجية كانت ام داخلية. وهذا يعني بقاء اسرائيل خارج اية احتمالات كارثية أو أهلية ما دامت ملتزمة بدورها الوظيفي في خدمة المصالح الاميركية. الا ان هذا الالتزام لا يستطيع وقاية اسرائيل من الكوارث المستقبلية وفي طليعتها دعم الآلية الاولى (نعمة الولادة اليهودية) التي تضمحل مع تلاشي أو تحولات يهود الشتات. الامر الذي يطرح مشكلة مسقبلية تطال هيكلية الدولة. فهذا التلاشي أو التحول يعكس اضمحلال الطرح اليهودي. مما يستدعي ضخ دماء جديدة له وهذا ما يقترحه بيلين وعديد من المفكرين الصهاينة الآخرين الداعين الى نقلة ما بعد صهيونية. في المقابل نجد ان تهاوي الطرح اليهودي (ربما أيضاً بما توصلت إليه دراسة مخطوطات البحر الميت) وظهور تباشير نهايته من شأنهما ايقاظ طموحات الطروحات الأخرى للهوية. وهذا ما يفسر ردة الفعل العنيفة، لدى كافة اصحاب هذه الطروحات، اما طرح رابين للشرق اوسطية. فإن هذا الطرح يلغي بقية الطروحات الراهنة ويدخل إسرائيل كطرف قوي متقدم في صناعة المستقبل . اما عن التهويد العلماني الذي يطرحه بيلين فانه يكاد يتطابق مع حركة التجديد التي قادها موسى ماندلسون (1729 ـ 1786) والتي ووجهت بمعارضة يهودية حاسمة في حينه. اما حركة المؤرخين الجدد، وبالرغم من انتمائها لمشروع رابين، فانها تكتفي بمجرد الدعوة للمراجعة التاريخية منذ فترة التأسيس وحتى الآن. وهي بذلك تبقي الابواب مفتوحة امام كافة طروحات الهوية الاخرى بعد نعيها للطرح اليهودي ـ الصهيوني التقليدي المعلن؟ لكن الملفت ان هذه الحركة بدأت تتجاوز هذه الحدود في ما يشبه رغبتها ببدء مقارعة طروحات الهوية الأخرى. فها هو ناخمان بن يهودا مثلاً ينقب في اعماق التاريخ اليهودي واساطيره الدينية ليدحض اسطورة الماسادا. بحيث تمكن قراءة هذه الخطوة وكأنها بداية شراكة بين المؤرخين الجدد وبين الاركيولوجيين العاملين على اخضاع الاساطير اليهودية للدراسة الاكاديمية وللمعطيات الاركيولوجية، (انظر مقالتي عن مخطوطات البحر الميت) الداحضة لهذه الاساطير والمشككة في صدقيتها (أنظر مقالات وكتب إسرائيل شاحاك أيضاً) فهل تكون حركة المؤرخين الجدد بعثاً او تقمصاً لحركة التجديد اليهودية (ماندلسون) وتجلياً معاصراً لها كما يرى بعض الدارسين؟

 

 

الأصول التاريخية للحركة منذ ماندلسون..

 


ان معارضة مباديء الحركة الصهيونية من قبل اليهود ليست اختراعاً جديداً! كما ان قيام حركة تنويرية (او شبه) داخل ديانة قديمة ليست بدورها اختراعاً! أيضاً هناك الشبه بين هذه الحركة وحركة الهاكسالاه (على الرغم من اختلاف فهمها للقضية اليهودية كموضوع تغيير). كل هذه الامور تدفعنا للبحث في تاريخ الحركات اليهودية عن اصول نظرية وتجارب سابقة قد تكون مساهمة في بنية الحركة. على ان لا نهمل بحال من الاحوال اختلاف هذه الحركة الرئيسي وهو انها تنطلق من دولة يهودية وتعمل لاستمراريتها. وهذا امر لم يحصل في التاريخ اليهودي منذ العام 70 ميلادية. على أن اول ما يلفتنا في الموضوع هو مصطلح "المؤرخون الجدد" نفسه. فهذا المصطلح ليس جديداً. اذ نقع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على كتابات ومؤلفات صادرة عما كان يسمى في حينه بـ "حركة المؤرخين الجدد". ومن هؤلاء نذكر: إ. ماير (وله كتاب اساطير موسى واللاويين ـ طباعة مركز التقارير البرليني (1905) ـ وكتاب اليهود والقبائل المنسية) وإ. سيلن (وله كتاب موسى واهميته في تاريخ الدين الاسرائيلي ـ اليهودي). لكن هذه الحركة كانت تهتم بالدراسات الاركيولوجية وان كانت تلقت دوراً سياسياً ودينياً شبيهاً بدور الحركة الحالية. وبالعودة الى حركات التنوير اليهودية فاننا نجد ان حركة ماندلسون قد عملت على تقريب المسافات وتخفيف حدة العداء بين المسيحية واليهودية. ولا شك بأن فلسفة مندلسون لها آثاراً باقية على اليهودية المعاصرة. ويمكن تلخيص الرؤية الماورائية لماندلسون بالنقاط الآتية: 1 ـ الايمان بالله و2 ـ الايمان بالعناية الالهية و3ـ الايمان بخلود الروح. ولا يخفى تأثر ماندلسون بالفيلسوف الالماني كانط (صاحب الفلسفة النقدية وهو بروتستانتي عاصره ماندلسون). وتعتبر حركة ماندلسون حركة البعث بالنسبة لليهودية المعاصرة. بل انها هي المؤسسة للتيار النقدي اليهودي وللمحاولات اليهودية لاخضاع المسلمات للعقل. وبذلك يمكن القول بأن حركة المؤرخين الجدد (الاركيولوجية) خلال القرن (19) وحركة المؤرخين الجدد الحديثة اضافة الى التيار الاركيولوجي النقدي ـ اليهودي المعاصر هي تجليات لحركة ماندلسون التجديدية. ولعل هذه الحركة هي التي ضمنت لليهودية امكانية التعايش مع العالم (المسيحي خصوصاً) فمن مقدمات هذه الحركة عمل ماندلسون على التوفيق بين اليهودية وبين المسيحية. وذلك عن طريق التشديد على النقاط المشتركة بينهما. كمقدمة لتقليص الجفاء بين اتباع الديانتين. ولم يكن التحديث ليكتمل بدون تبسيط الطقوس والعبادات اليهودية. وهكذا نشأت معابد يهودية حديثة كان اولها معبد اسرائيل يعقوب (1768 ـ 1828).

وكانت هذه المعابد تخالف طقوس المعابد الارثوذوكسية في نواح عديدة. حتى اعتبرت حركة المؤرخين الجدد الاركيولوجيين بمنزلة الاستمرار (او التطبيق) لهذه الحركة الجديدية. فقد ترافقت بداية القرن التاسع عشر مع قفزات جديدة للفكر الانساني. وحلت فلسفة الشك مكان الفلسفة النقدية. وعلى هذا الاساس بدأت الدراسة العلمية للتاريخ اليهودي. واتجهت بحوثه لدراسة العهد القديم. مع المتابعة النقدية للتفسيرات التي اعطيت له فأدت الى تكوين "الموقف الجديد من التلمود". وبحسب هذا المنهاج لم يعد من المقبول اعتبار الاسفار الخمسة (من أول العهد القديم) من الوحي. فقد بددت هذه الدراسات صفة الوحي عن العهد القديم وجعلت من التلمود كتاباً وضعياً. بعد ان كان يفوق الكتاب المقدس في اهميته لجهة التشريع والسمعيات والعقائد. وهكذا وصل المؤرخون اليهود الجدد (القرن 19) الى التأكيد على ان محتويات الكتاب المقدس والتلمود ملوثة بجملة خرافات يجب ان لا تترك لتدنيس عقول الناس وتلويثها. ومن هنا كان الاتجاه اليهودي يالتنويري (وليد حركة ماندلسون) الى اعتبار اليهودية ديانة توحيدية مبسطة لا ترتبط بالقومية اليهودية ولا بأرض الميعاد. كما دعا هذا الاتجاه لاعتبار اليهودية ديانة كونية (مفتوحة) لهداية الناس جميعاً. وبالتالي فان الاله اليهودي هو اله البشر جميعاً (مع الاصرار على وضعية الشعب المختار بما فيه من نزعة قومية وعنصرية باطينة). بعد ما تقدم يمكننا القول بأن ماندلسون هو المؤسس لتيار "لا سامية الأنا". وهو قد جوبه بمعارضة عنيفة محافظة. لكن اوضاع اليهود في تلك الفترة لم تكن لتسمح لهم باغتياله أو بتصفيته معنوياً. لان وكالة مكافحة التشهير اليهودية لم تكن قد ولدت بعد. وفي عودة الى حركة المؤرخين الجدد المعاصرة نجد انها تخضع للعقل تاريخ اسرائيل منذ تأسيسها. دون ان تتصدى للاساطير الدينية ولخرافاتها. وهي اذ تفعل ذلك فهي تفعله في محاولة لتأمين استمرارية اليهود وازالة قسم بسيط من العداء المتراكم ضدهم نتيجة لخضوعهم لايحاءات الارهاب الصهيوني ومشاركتهم فيه. وهذه الحركة انما تهدف، اول ما تهدف، الى التمهيد لتبرئة اليهودية من الصهيونية التي لم تعد مؤامراتها واساطيرها قادرة على الصمود طويلاً مع ظهور وثائق ومستندات جديدة تدينها بصورة مستمرة. ولذلك كان ميل الحركة لتبني شعار "ما بعد الصهيونية". مع ما في هذا الشعار من مسايرة للنمط الفكري السائد راهناً. حيث تأتي "نهاية الصهيونة" كشائعة مكملة لشائعات أخرى من نوع "نهاية التاريخ" وغيرها من النهايات.

 

المعارضة الاسرائيلية /الصهيونية للحركة..

 


حتى اليوم لا تتعدى حركة المؤرخين الجدد كونها مجموعة من الاكاديميين الذين يجرون بحوثاً للتحقق من بعض الملابسات والتفاصيل المتعلقة بالصراع العربي ـ الاسرائيلي منذ تأسيس اسرائيل وحتى اليوم. ولهذا السبب فقد عوملت هذه الحركة على انها مجرد تيار من التيارات العلمانية لغاية قرار وزير التعليم يوسي ساريد ادخال افكار هؤلاء المؤرخين الى المدارس وتدريسها للتلاميذ. فهذا القرار هو الذي اعطى للتيار طابع الحركة مبيناً تأثيرها وتمتعها بالتأييد السياسي. ويجيء هذا القرار على يد الحكومة الباراكية المستعدة لتقديم تنازلات من النوع الرابيني (نسبة الى رابين) مما جعل معارضة اليمين المتدين لهذه الحركة معارضة ذات طابع حاد.

 

وربما نجد في كتاب افراييم كارش المعنون بـ"فبركة التاريخ الاسرائيلي: المؤرخون الجدد" عينة على المعارضة الداخلية ـ الاسرائيلية التي تواجه هذه الحركة والمؤلف ضابط سابق في الموساد الاسرائيلي ويعمل حالياً استاذاً للدراسات المتوسطية في جامعة كنغزكوليج بجامعة لندن. وبمعنى آخر فان كارش يتوج عمله في الاستخبارات بالدفاع عن وجهة النظر الصهيونية ودعمها عبر المنابر الاكاديمية العالمية. بما يدفعنا للسؤال استطراداً عن وجود اكاديميين عرب في منابر شبيهة لضحد رواياته المبرمجة مخابراتياً؟. وهذا ما يجعلنا بحاجة الى القبول بروايات المؤرخين الجدد المعتدلة نسبياً. بالرغم من معرفتنا بمشاركتها في التأسيس لمشروع يتعارض والمصالح العربية. مهما يكن فان كارش يشن في كتابه هجوماً عنيفاً على المؤرخين الجدد. متهماً اياهم بتشويه التاريخ الاسرائيلي وبالبعد عن القواعد الاكاديمية في كتاباتهم. وهو يبين نيته في تحطيم ما يسميه "اسطورة المؤرخين الجدد". فيبدأ باتهامهم بالانتقائية وبالتأويل المنحاز للروايات والوثائق التي تقع عليها ايديهم. ويبذل كارش جهده كي يلاحق بالاتهام جميع هؤلاء المؤرخين. ويركزعلى ما يعتبره نقاط الضعف في اعمالهم. فيتصدى لها بالنقد والهجوم والمحاججة. وهو يركز بشكل خاص على اثنين من اشهرهم هما "بابي" و"شليم" تاركاً الاتهامات والتجريحات من نصيب بيني موريس باعتباره الاشهر بينهم. فنراه يطعن موريس بأهليته الاكاديمية. لكن موريس لن يلبث وان يرد له الصاع صاعين مذكراً اياه بخلفيته الاستخباراتية التي تجعله قاصراً عن تقديم نقد موضوعي لمثل هذه الاعمال. وهذه مجرد عينة عن السجال الذي تثيره حركة المؤرخين الجدد في الأوساط الاسرائيلية. ومن الطيبعي ان نتوقع قيام معارضة عنيفة لهذه الحركة من قبل اليمين الاسرائيلي ومن قبل المتعصبين للصهيونية. ولكن حسبها انها تلقى من الدعم السياسي ما يؤهلها للاستمرار ولادخال افكارها الىعقول تلامذة المدارس وايضاً نشر اعمالها بحرية. ولعل من اهم الاسباب التي تدفع اليمين للتغاضي عن هذه الحركة تكمن في صراعه مع مشروع حزب العمل للتسوية السلمية اضافة للابحاث الاركيولوجية الجديدة التي باتت تشكك بالمرويات التوراتية اضافة الى قلة عدد هؤلاء المؤرخين. حيث لم يتجاوزوا العشرة لغاية الآن.

 

 

انعكاسات الحركة على الرواية الرسمية العربية..

 


يندرج السجال الذي يثيره المؤرخون الجدد في الاوساط الاسراائيلية في اطار السجالات اليهودية الاعتيادية. فالاوساط النخبوية لا تجد بأساً من تقديم اعترافات مر عليها الزمن ولم تعد تستوجب العقوبة. فاسرائيل اصبحت بحكم الامر الواقع دولة موجودة وقوية بتفوق. ويبقى ايجاد الصيغة المناسبة لاستمراريتها. ومن هذه الصيغ صيغة رابين المعنونة بـ”الشرق اوسطية” والتي تعني ببساطة تحويل طموح "اسرائيل الكبرى" الى طموح "اسرائيل العظمى"، (عظمى بالمعنى العسكري والإقتصادي الذي يصل حتى الهند والباكستان ويشارف حدود الصين كما يراه الكاتب والمفكر إسرائيل شاحاك). وهذا التحويل يقتضي الخلاص من تبعات الصهيونية وتجاوزها. وما حركة المؤرخون الجدد الا أداة لتحقيق هذا التجاوز تمهيداً لإرساء "ما بعد الصهيونية" مقابل تبرئة اسرائيل من تجاوزات الصهوينة واخطائها. وجرياً على العادات اليهودية فان الطرح المعاكس تماماً جاهز. وهو يقول بتحويل اسرائيل الى حكم الحاخامات وبقاءها في الوضعية التوراتية الاسطورية. مع الاستعداد للاختناق داخل اسرائيل على غرار اختناق اليهود داخل الغيتوات. ولكن ماذا عن انعكاس هذه التوضيحات التاريخية على الرواية الرسمية العربية؟ ظاهرياً نجد هذه التوضيحات داعمة للرواية العربية مثبتة لها. حتى تبدو اعمال هؤلاء المؤرخين وكأنها تناصر العرب ورواياتهم. وهذا في رأي البعض غير صحيح. وإذا كان صحيحاً فإنه يطال النظام العربي برمته ويزعزع استقرار أنظمة ودول عربية ويقوض تاريخها المبني على أكاذيب وأضاليل ليس أقلها التآمر على الشعب الفلسطيني طوال أكثر من نصف قرن، على الأقل في هذه المرحلة نختصر:

 

1ـ يؤكد المؤرخون الجدد على وجود تواطؤ عربي رسمي للحؤول دون قيام دولة فلسطينية كنتيجة طبيعية لقرار التقسيم. مما يعني استجابة الزعماء العرب في حينه لرؤية بن غوريون الخاصة للمصالح الاسرائيلية. ويركز بيني موريس بشكل خاص على تفاهم الملك عبدالله الأول مع اسرائيل. ولكن التشكيك لا يقف عند ملك الاردن والمؤسس بل يتعداه الى سائر الزعماء في حينه.

 

2ـ يشكو المؤرخون الجدد من ضبابية الارشيف العربي المتعلق بالصراع العربي ـ الاسرائيلي وعدم امكانية الوصول الى وثائقه بصورة مباشرة. وضرورة الالتفاف للحصول على هذه المعلومات عبر الوثائق المخابراتية الاجنبية، البريطانية خاصة.

 

3ـ يعتبر المؤرخون الاسرائيليون الجدد أن عملهم لا يكتمل دون قيام حركة مؤرخين عرب جدد موازية. بما يوحي ان الخلاف العربي ـ الاسرائيلي متركز على ايضاح بعض النقاط التي تدين الصهيونية بما يسمح بعدها بالانتقال الى مرحلة تفاهم ما بعد صهيونية.!

 

4ـ امام الدعم العالمي لاسرائيل اضطر الزعماء العرب لخوض حرب تعبئة نفسية بهدف الحفاظ على المعنويات. وايضاً وقاية الجمهور من اخطار الحرب النفسية الاسرائيلية التي سخرت وسائل الاعلام العالمي. وبذلك طغت هذه التعبئة على الرواية الرسمية العربية لتاريخ الصراع. بحيث يؤدي سرد الحقائق الى دحض هذه الرواية. فكيف للجماهير العربية أن تتصرف إذا، على حد تعبير محمود درويش، إذا ماافتضحت أنظمتها تماما؟

 

 

 

ونكتفي بهذه النقاط لنشير بان الجماهير العربية اصبحت اقل استجابة لتحريض التخوين أوالتكفير. وبتنا نفضل مرغمين ان ننظر للأمور كما يرى البعض على انها معايشة لوقائع لا يمكن الحكم عليها بدون العودة الى زمنها التاريخي. ويمكننا ان نختلف حول ما اذا كان التصرف الرسمي العربي في حينه منسجماً مع المعطيات الموضوعية لتلك المرحلة أم لا. كما يمكننا ان نختلف حول درجة هذا الانسجام. فنحن ندرك اليوم بجلاء ان اسرائيل لم تكن بلد اليهود بل كانت قاعدة مصالح (ولا تزال) ذات دور وظيفي محدد بدقة وعناية. وبذلك لم يكن امامنا خلال هذه الحقبة التاريخية ان نختار بين الجيد والسيء. بل كنا نختار بين السيء وبين الاكثر سوءاً. لذلك فاننا أو البعض منا لا يجد اية مصلحة عربية في تفجير هذه الألغام في ظل السياسات الاسرائيلية الراهنة.

عزل الفلسطينيين لحين شفائهم من العروبة والإسلام

 

 

السبت 14 شباط 2004

 

 (نشر لأول مرة في مجلة فلسطين)

 

 

تيسير نظمي

 

 

 

أوضح بيني موريس (المؤرخ الإسرائيلي) أن السلام لن يحل في هذه المنطقة خلال الجيل الحالي، كما أن هذه المنطقة لن تشهد حياة جيدة وطبيعية خلال العقدين القادمين، وانه لا يرى في العمليات التي تستهدف الإسرائيليين عمليات فردية بل تعّبر عن إرادة عميقة لدى الشعب الفلسطيني، وهذا ما يريده معظم الفلسطينيين، كما أن هذا الأمر يعود في جذوره إلى أمر أعمق يتعلق بالإسلام وبالثقافة العربية، (ونحن نقف هنا أمام قيم مختلفة، وأمام عالم يسمح بسفك دماء كل من لا ينتمي لمعسكر الإسلام، واعتقد بان الأشخاص الذين يرسلهم المجتمع الفلسطيني لتنفيذ العمليات التخريبية ضدنا يمكن وصفهم بالبرابرة المتوحشين وهذا ينطبق على المجتمع الفلسطيني الذي يمكن وصفه بالمجتمع المريض نفسياً، وان أرى أن الحاجة تستدعي القيام بمحاولة لمعالجة الفلسطينيين، وربما تساعد إقامة دولة فلسطينية في هذه المعالجة، والى حين يتم إيجاد العلاج فان الحاجة تستدعي وضع الفلسطينيين في معازل لكي لا يتمكنوا من قتلنا، وينبغي إقامة حظائر لهم كتلك المستخدمة لعزل الحيوانات، وأنا أدرك بان هذا الأمر يبدو فظيعاً وقاسياً إلا انه لا يوجد أمامنا خيار آخر، حيث توجد هناك حيوانات متوحشة ويجب حبسها بهذه الصورة أو تلك..).

 

من الأساطير إلى الترانسفير

 

 

يقترح الفيلسوف الفرنسي ارنست رينان التعريف التالي للأمة:" مجموعة من الناس اتحدت وفق وجهة نظر خاطئة في ما يتعلق بماضيها. ثم قامت على أساس كراهية جيرانها". هذا التعريف ينطبق أكثر ما ينطبق على الأمم التي تحيط الشكوك بتاريخها وعلى الاخص تلك التي تعاني قطيعة تاريخية قابلة لسد فراغها بالأساطير والروايات غير الدقيقة إذا لم نقل الكاذبة أو المصطنعة. لكن هذا التعريف غير قابل للاعتماد في حالة الأمة الفاقدة لتاريخها كما هي الحال في الولايات المتحدة. كما انه بعيد كل البعد عن التطبيق في حالة الأمة صاحبة التراث الذي لا يقبل التشكيك وان كان يحتمل قراءات متعددة. وبالعودة إلى الأمة القائمة على تاريخ من الأساطير نجد أنها تضطر لإجراء مراجعات دورية لهذه الأساطير. من هذا المنطلق كان لحركة المؤرخين الإسرائيليين الجدد دوراً حيوياً في عملية إعادة تنظيم التاريخ اليهودي الذي بدا يتهاوى أمام المكتشفات الحديثة التي يتجاهلها اليهود الأصوليون في إصرار غير متبصر بما ينجم عن تلك الأساطير. أما العلمانيون اليهود فهم أكثر تبصراً واستشرافاً للمستقبل. فهؤلاء يدركون بأن الإيمان الديني يحتمل الأساطير وينأى بها عن المناقشة العلمية . وهو ما لا تحتمله الأساطير السياسية. لذلك شجع هؤلاء اليهود الحركة التي عرفت باسم “المؤرخين الجدد”.حتى أن رابين أوكل الى لجنة منها وضع كتب تنقض أساطير الصهيونية السياسية لتدريسها في المدارس. وتابعت هذه اللجنة عملها طيلة خمس سنوات أصدرت في نهايتها مجموعة كتب منها كتاب بيني موريس:" ضحايا الحق ـ تاريخ الصراع الصهيوني ـ العربي (1881 ـ 1999)". والعام 1881 هو عام تأسيس أول مستعمرة صهيونية وهي مستعمرة رأس صهيون” (رشون لوزيون) التي أسسها المهاجرون الروس. و موريس من المؤرخين المعروفين وسبق له إصدار كتاب بعنوان مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين (1947 ـ 1949) الصادر عام (1988). وهو معروف بموضوعيته وبقراءاته المتجردة للتاريخ.

 

فهل كان كذلك في هذا الكتاب؟ لا نستطيع أن نتجاهل تميز موريس واختلافه عن معظم المؤرخين الجدد. إذ أنه يقدم مقاطع طويلة محايدة في قراءاته التاريخية التي يتضمنها هذا الكتاب. و يوفق في إقامته المقارنة بين ثورة (1936 ـ 1939)الفلسطينية وبين الانتفاضة الفلسطينية (1987 ـ 1993). و يرى بينهما تشابهاً يدعو إلى طرح الأسئلة. إلا أن الأهم هو إيحاء المؤلف بقيام ثورات فلسطينية دورية كل 50 سنة لا يحول التفوق العسكري الإسرائيلي دون اندلاعها. وهذه الثورات تستمد أهميتها من كونها داخلية اي مهددة لليهود مباشرة تهديد يثير ذعرهم أكثر من العمليات الخارجية. ويتطرق المؤلف لمناقشة أساليب المهاجرين اليهود في استملاك الأراضي الفلسطينية ويؤرخ الصدامات الفلسطينية الصهيونية بدءاً بثورة (1939) مروراً بحرب فلسطين (1948) حيث يتوقف ليصف الممارسات الإرهابية ضد السكان العرب والأعمال الوحشية المقترفة بحقهم إضافة لاعتماد أساليب الحرب النفسية والحيل والأكاذيب الهادفة لتهجير اكبر عدد ممكن من الفلسطينيين. وإجبارهم على النزوح من أراضيهم. وهذه الروايات تتناقض مع الادعاءات الصهيونية القائلة بان الدول العربية هي التي دعت الفلسطينيين للنزوح المؤقت ريثما تقضي على اليهود. وبتابع موريس مستعرضاً حروب (1956-1967)وحرب الاستنزاف وحرب (1973) وحرب لبنان (1982 ـ 1985) ـ أي الاجتياح وصولاً إلى الانتفاضة واتفاقية أوسلو والسيرورات المتفرعة عنها.وبذلك يكون المؤلف قد وضع حجر الأساس لقراءة حديثة لتاريخ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. إلا أن هذه القراءة لا تخلو من بعض نقاط الضعف التي قد تدعم حيادية موريس أو تنقضها تبعاً للوثائق التي سيفرج عنها لاحقاً

 

 الجنرالات يخفون الوثائق لاحتواء المؤرخين

 

ومن نقاط ضعف موريس :

 

أ ـ رغم انه يحمل إسرائيل مسؤولية تهجير الفلسطينيين لكنه لا يعتبر ذلك حصل وفق خطة مدروسة وموضوعة مسبقاً كما يؤكد على ذلك أفي شليم. الذي يضيف بأن الخطة كانت موضوعة بالاتفاق مع الملك عبد الله الأول. في حين يصر موريس على أن هذا التهجير قد حصل بصورة عشوائية بل وبدعم من زعماء محليين. كما يعارض موريس في ذلك المؤرخ الجديد سيمحا فلابن الذي يؤكد على وجود خطة متكاملة لتهجير الفلسطينيين إلى الدول العربية.

 

ب ـ انه يكرر معلومات كان قد أوردها في كتبه السابقة منها حصره مسؤولية التهجير بنسبة55% للهاغاناه ولمذبحة دير ياسين.في حين يعتبر مؤرخون آخرون إن هذه النسبة هي 100% وهي نتيجة خطة مدروسة كما اسلفنا.

 

ج ـ يكتفي بالتلميح إلى وجود آثار لحركة الترانسفير على السلوك الصهيوني. ليتراجع عنه بإلقاء عاتق التهجير على أعمال الحرب العشوائية. ويعارضه في ذلك نعوم تشو مسكي الذي يؤكد على استمرارية اعتماد إسرائيل لمبدأ الترانسفير. وهويصر على ذلك في كتاباته وخصوصاً في كتابه “قراصنة وأباطرة”.

 

وبالرغم من هذه النقاط وغيرها فان موريس يعتبر من طليعة المؤرخين الإسرائيليين الجدد. ويعده البعض اهمهم على الإطلاق. ومن هنا كان تركيز الهجوم عليه من قبل افراييم كارش، المعادي لحركة المؤرخين الجدد، في كتابه:” فبركة التاريخ الإسرائيلي ـ المؤرخون الجدد”. ليعود فيوجه اليه تهماً تخرجه من دائرة المؤرخين إذ يتهمه بـ: سوء التفسير والاقتباس المجتزأ و عدم الإشارة إلى البراهين و الوصول إلى تأكيدات خاطئة و إعادة كتابة الوثائق الأصلية أي التحريف. هذه التهم استثارت ردود فعل موريس وكانت إيذاناً ببداية جدل محتدم بينهما. ولعلنا نجد في هذا الجدال مدخلاً للتعرف إلى نقاط الضعف والقوة في حركة المؤرخين الجدد وأسباب قبول ورفض الإسرائيليين، على اختلاف اتجاهاتهم، لهذه الحركة. ولا بأس من التذكير بأن م بيني موريس ولد في العام 1948 في احد الكيبوتزات ومن أهم كتاباته: 1 ـ ولادة مشكلة اللاجئين (1988) و2 ـ 1948 وما بعدها (1990) و3 ـ حروب اسرئيل الحدودية وضحايا الحق (1999) و4 ـ بعض المقالات التحليلية لرسائل بن غوريون. و الأخيرة هي الأهم في كتابات موريس والأجدر بلفت نظر المثقفين العرب. إضافة طبعاً إلى أعماله الأخرى.ويشكو موريس، مثله مثل بقية المؤرخين الإسرائيليين الجدد من عدم قدرة الباحثين العرب أنفسهم من الإطلاع على الوثائق والملفات العربية. ويذكر انه يستعيض عنها بتقارير المخابرات الإسرائيلية المتاحة له.

 

. والواقع أن كتابات موريس وغيره من المؤرخين الجدد تحتوي على انتقادات اقل حدة من انتقادات تشو مسكي ولكن مع فارق أساسي إن الأخير يستند إلى المقارنة بين التسريبات الصحفية في حين يعتمد المؤرخون على وثائق يحتاجونها من اجل محاججة المؤرخين الإسرائيليين الرسميين. من هنا يبدو تفوق كتابات تشومسكي وامتلاكها لهامش أوسع من الصراحة ومن الانتقادات المباشرة.

 

داني بيتر: هل حقا بيني موريس مؤرخ جديد؟

 

الصهيونية و التاريخ

 

داني بيتر يستهل مقالة له بمحاججة موريس والمؤرخين الجدد فيستشهد مقدماً بمقولة لماركس مقتبسة من كتاب "ما هو التاريخ" ص59 فيقول: "التاريخ لا يفعل شيئا فهو لا يملك ثراء فاحشا، ولا يقاتل في المعارك.. أن بشرًا من لحم ودم هم من يصنع كل شيء، يشترون العتاد ويخوضون الحروب". فقد نشر موريس في 16/4/2002 مقالاً في ملحق جريدة هاأرتس قيَّم فيه كتابين صدرا لـ مردخاي بار أون، الأول بعنوان "الذاكرة ككتاب" (حول تاريخ حرب 1948) والثاني "حدود من دخان" (وهو عبارة عن تأملات في تاريخ دولة إسرائيل 1948 – 1967).

 

بداية، تجدر الإشارة إلى أن بيني موريس كان قد أصبح في الموعد الذي نشر فيه المقال، بيني موريس آخر.. إذ لم يعد من أهم المؤرخين الجدد، حيث كان قد كشف عن مشكلات أساسية في تاريخ الدولة، مثل مشكلتي اللاجئين والعمليات الانتقامية. قبل شهرين فقط من تاريخ نشر المقال المذكور، أي في شباط 2002، نشر مقالا في صحيفة " الغارديان" البريطانية، يتراجع فيه عن إسهامه الكبير في إماطة اللثام عن "النكبة" الفلسطينية والمسئولين عنها. وقد كتب في مقاله هذا قائلاً: "إن كل من استخدم بحوثي بهدف إبراز دور إسرائيل ومسؤوليتها، لم يأخذ بالحسبان أنني أكدت في الخلاصة أن مشكلة اللاجئين كانت حتمية، نتيجة للموقف الصهيوني بإقامة دولة يهودية على ارض مأهولة في غالبيتها بالفلسطينيين،

ونتيجة للرفض العربي للمشروع الصهيوني." في ختام مقاله يؤكد موريس على وجهة نظره القائلة بأن (الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات لا يستطيع  أو لايريد - إقامة سلام على 22% من ارض إسرائيل الانتدابية، تشكل دولة إسرائيل78% من مساحتها وسط التنازل عن حق العودة. وتأسيساً على ذلك يستنتج موريس مؤكداً: "

 

اعتقد أن التوازن بين التفوق العسكري الإسرائيلي والتفوق الديموغرافي الفلسطيني هو الذي سيقرر مصير الدولة: فإما أن تكون فلسطين دولة يهودية دون وجود أقلية عربية كبيرة، أو أن تكون دولة عربية تعيش فيها أقلية يهودية تتضاءل تدريجياً، أو أن تصبح أرضا محروقة نتيجة لاستخدام سلاح ذري، فتغدو غير تابعة لأي من الشعبين". بهذا الموقف الفكري يضع موريس نفسه في الطرف اليميني للمجتمع الإسرائيلي، وهو كتحصيل حاصل لهذا الموقف، وهذا ما سأبينه لاحقاً مما يسوقه في تقويمه لمواقف مردخاي بار أون. بار أون شخص مختلف كليًا، أصبح مؤرخا في السنوات الأخيرة فقط وهو من مؤسسي حركة (السلام الآن)، كان قبل ذلك عسكريًا في الجيش النظامي لسنوات عديدة وقائد سرية في لواء غبعاتي عام 1948 ومديرًا لمكتب رئيس هيئة الأركان العامة موشيه ديان في العام 1956، وضابط الثقافة الرئيسي المسئول عن تنمية التراث القتالي في الجيش الإسرائيلي في الستينات. ويقتبس موريس من مقالة بار اون، <الذاكرة الجماعيةوحقيقة ما حدث> الفقرات الهامة التالية:

 

• "الصراع بيننا وبين العرب لم يكن بمكانة خطأ ارتكبه هذا الطرف أو ذاك، وإنما في التجربة الصهيونية ذاتها. فمنذ اللحظة التي سعى فيها اليهود إلى إعادة بناء سيادتهم القومية في ارض إسرائيل...، لم يعد هناك مفر من الصراع المرير.. نظرًا لأن الصهيونية هي الطرف المدبر للعملية الأساسية بإدخالها إلى الشرق الأوسط طرفًا سعى إلى قلب الوضع رأسًا على عقب، ومن واجبنا الاعتراف بأنها (الصهيونية) كانت أيضا المحرك الرئيسي للصراع.. لم يبدأ الصراع في العام 1948، وإنما عقب وصول أوائل الصهاينة إلى ارض إسرائيل في نهاية القرن التاسع عشر. ويؤكد بار اون أن تجربته وتجربة الآخرين، اثر قرار الأمم المتحدة (29 تشرين الثاني 1947) هي التي أوجدت الفوارق بشأن اسباب الحرب: رفض العرب قبول قرار الأمم المتحدة، والعدوان العربي الذي عرض حياتنا للحظر... وبناء عليه فقد كان إلقاء مسؤولية الحرب على عاتق الجانب العربي، نتيجة طبيعية لتلك التجربة الجماعية ذاتها..." و يتساءل بار اورن قائلا:

 • "ما الذي يعنيه العدوان بالضبط؟ ربما كان من الأصح أن نرى في أعمال العرب محاولة يائسة للذود عن حقوق بدت لهم مكتسبة بحكم أقدميتهم ووجودهم بحد ذاته في هذه البلاد؟ هل حقا انه لا أساس للادعاء العربي بأن قرار الأمم المتحدة وإعلان قيام الدولة(إسرائيل) كانا تعدياً على حقوقهم الأساسية في هذه البلاد؟ وهل كان هناك حقًا رفض غير منطقي وغير أخلاقي إلى هذا الحد من جانبهم مثلما تزعم الرواية الصهيونية؟ من جهة ثانية، • ما هو الخيار الذي كان متاحاً لي ولزملائي في ذلك الوقت؟ فقد ولدت في هذه البلاد ولم يكن لي ثمة بيت آخر، وكنت ارغب بالعيش في ظل سيادة يهودية.. ولو تكررت الأمور اليوم لكنت قد تصرفت تمامًا بنفس الطريقة التي تصرفت بها في العام 1948... ولكن طالما أن وجود الدولة أصبح أمرا لا شك فيه فإنني قادر على رؤية الأمور أيضا بمنظور مختلف واستيعاب انه.. في الصراع اليهودي -العربي لا يوجد أخيار وأشرار... ويكتب موريس أن: بار اون يذكر بصراحة مشاركته في عمليات انتقامية ضد إحدى القرى العربية خلال الشهور الأولى للحرب، وواقعة مقتل قرويين أبرياء في نفس العملية.... كذلك ناقش بحث بار اون مسألة ميزان القوى بين التجمع اليهودي والجيوش العربية، عقب تدخلها اثر إعلان قيام الدولة وجلاء البريطانيين عن البلاد. فهل حقا قاتل دافيد اليهودي ضد جوليات العربي؟ 

 

يصف بار اون التجربة التي مر بها هو ونفر من زملائه على حاجز للجيش المصري في الطريق إلى تل أبيب. وقد كانت هذهتجربة تفوق هائل للعدو في اجتياحه للبلاد. وهو يؤكد عمليا بأن (ذلك لم يكن انعكاسًا حقيقيًا لموازين القوى الفعلية طوال اشهر الحرب، على الجبهات المختلفة). بالنسبة لمشكلة اللاجئين، يؤكد بار اون أنه شارك شخصياً في احتلال قرى خلَت من سكانها، وان زملاءه طردوا لاجئين من قراهم لأن (مشكلة اللاجئين الفلسطينيين نشأت في المحصلة نتيجة لظهور الصهيونية في البلاد. فلولا قيام الحركة الصهيونية بمشروع جمع الشتات اليهودي واستيطان البلاد.. لكان مئات آلاف اللاجئين لا زالوا يعيشون حتى يومنا هذا على أرضهم وديارهم). على الرغم من وجود تباعد كبير بين موريس وبار اون في الواقع الإسرائيلي، إلا أن هناك خلافاً جوهرياً وأساسيا بين داني بيتر وبين الاثنين، انه خلاف تاريخي مبدئي حول التاريخ.وليس صدفة على الإطلاق أن تقويمات بار اون تحوز إلى حد كبير على اهتمام بيني موريس الحالي. في نقد الرواية التاريخية الإسرائيلية للنكبة والتهجير د. ايلان بابي في محاضرة له عنوانها " قراءة نقدية في الرواية التاريخية الإسرائيليةللنكبة والتهجير" كما تنعكس في مناهج التعليم، وفي وسائل الإعلام الإسرائيلية، قال أن الادعاء القائم هو أنه في عام 1948 وصلت الكراهية لليهود وعدوانية العرب تجاه الصهيونية إلى ذروتها، فتجمعت الجيوش العربية مستغلةً انسحاب الانتداب البريطاني من فلسطين، لمحاربة اليهود، وقامت بتوجيه النداء للفلسطينيين لترك البلاد، لتسهل على القوات العربية إنجاز مهمتها. وبأعجوبة إلهية نجحت فصائل الهاغاناه اليهودية قليلة العدد والعدّة ! بهزم الجيوش العربية المجهزة بأفضل المعّدات الحربية ! ، وتحقق الحلم الصهيوني، دولة إسرائيل. بالاعتماد على دراساته ودراسات سابقة، يقول إيلان بابي: ( "أنه لا توجد أية أدلة تاريخية توثق الادعاء الإسرائيلي حول نزوح السكان الفلسطينيين استجابة لنداء قياداتهم الوطنية. على العكس تماما، بناءً على الأرشيف البريطاني، كانت هنالك دعوة للصمود والثبات في البلاد ومحاربة اليهود، وكان يتم تزويدهم من الخارج بالمال والسلاح ليدعموا ثباتهم. ويضيف بابي أنه لو قام السكان الفلسطينيون بالنزوح لما كانت هنالك حاجة لوضع خطة لطردهم من البلاد.

 

أما بالنسبة لفارق القوى بين الجيوش العربية وفصائل الهاغاناه، فمن غير الممكن التحدث عن جيوش عربية، حيث كان معظم الجنود العرب من سوريا ومصر متطوعين ولا خبرة لهم في القتال ولم يجهزوا بالأسلحة. الجيش العربي الوحيد الذي كان بإمكانه التأثير على نتيجة الحرب هو الجيش الأردني، إلا أنه لم يشارك في الحرب مقابل ضم الضفة الغربية للمملكة الهاشمية، بناءاً على الاتفاق بين القيادة الصهيونية والأمير الهاشمي، عبد الله، عشية النكبة. وبالمقابل لم يكن الجنود اليهود أقل عدداً، بل كانت لهم خبرة اكبر في القتال حيث أن جزءً كبيراً منهم تدرب على القتال ضمن صفوف الجيش البريطاني.وتحدث د. ايلان بابي في محاضرته عن رؤيتين مختلفتين لمشروع التهجير وأسبابه:

 

الأولى لبيني موريس، الذي يدعي عدم وجود خطة وبرنامج جاهز للتهجير، إنما كان التهجير نتيجة قرارات آنية للضباط الميدانيين لأسباب مختلفة، كالإنتقام أو خوض معارك صعبة وغير ذلك. كانت هنالك بالتأكيد أيديولوجية تسمح بالتهجير إلا أنه لم تكن هنالك أوامر بذلك. بحسب بيني موريس من بين 750 ألف مهجر، 200-250 ألف هجروا عنوةً، 200 ألف هربوا خوفاً، والباقي نزحوا دون أي تهديد.

 

أما الثانية فهي رؤية د. ايلان بابي نفسه. فهو يدعي بأنه كان لدى الهاغاناه والقيادات الصهيونية برنامج جاهز لطرد وتهجير الفلسطينيين، والتطهير العرقي. هذا البرنامج نبع من الإدراك بأن الفلسطينيين لن يتركوا أرضهم، ومن المعرفة بأن قرار الأمم المتحدة لن ينفذ وعليه ستقام دولة إسرائيل على مساحة أكبر من تلك التي خصصت لها بحسب قرارات الأمم المتحدة. في هذا الجزء من أراضي فلسطين، الذي ستقام عليه دولة إسرائيل، سكن 900 ألف فلسطيني و 660 الف يهودي، ومن الواضح استحالة إقامة دولة يهودية بوجود 900 ألف فلسطيني. من هنا نبعت الضرورة لطرد الفلسطينيين وتهجيرهم. ولذلك تم تقسيم البلاد إلى اربعة أجزاء نصبت عليها فرق عسكرية أوكلت لها مهمة طرد السكان من قراهمفي ذلك الجزء. كانت تتم محاصرة القرية من ثلاثة جهات ويحدد موعد أقصى لترك القرية، ويتم تهديد السكان وتخويفهم بقتل بعض سكان القرية، حتى يتركوا القرية. وفي حال لم يستجيبوا لأوامر الجيش الإسرائيلي بإخلاء قراهم يتم إخلائهم بالقوة وعنوةً. كما ذكر بابي أن هناك حديث عن استخدام وسائل أخرى كالأسلحة البيولوجية، وتسميم مياه الشربوالاغتصاب.

©2024 Nazmius Group & Originality Movement تيسير نظمي